«خادمات المقام» .. عشق الحجارة والخرز حد الهوس
في خمسينيات القرن الماضي، في جزيرة في الكويت، تنقلت منى الشمري الكاتبة الكويتية حاملة خرافات وصفتها في الصفحة الأولى من روايتها "خادمات المقام" بأنها جرثومة العقل، لا يشفى حاملها إلا بالموت، مستشهدة بما قاله الجاحظ لتضفي على روايتها قيمة أدبية عريقة ترافقت مع عبارات وصفية راقية.
استهلت الكاتبة الصفحات الأولى من الرواية، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2022، بالحبكة دون أي مقدمات عن جزيرة فيلكا التي تدور فيها الأحداث، أو أي تمهيد عن الشخصيات، ظنا منها أنها ستجذب القارئ من خلال سردها قصة جثة تحمل في داخلها جنينا، وجدت بالقرب من الشاطئ، فأخذها أهل الجزيرة إلى مقام الخضر، وهو المقام الذي تحصل في داخله كل أحداث رواية "خادمات المقام" وهن ماريا وأم وحيد ومنيرة، اللواتي تربين في مقام الخضر، على الخزعبلات.
قصص الفتيات
ماريا امرأة عشقت منذ طفولتها الحجارة والخرز حد الهوس بهما، أما منيرة فهي تتألم بسبب عقمها الذي حصل، حسب معتقدهن، نتيجة قط أسود ركض نحوها ليلة زفافها إلى ابن عمها، قبل أن تدخل غرفتها، ارتطم رأس القط بقدميها، صرخت وقفزت ورفعت ثيابها ليهرب من تحتها، ففسرت ماريا خادمة المقام ما حدث بأنه عاشق من الجن رسم خطا سرمديا يمنعها من الإنجاب، وأيدتها في ذلك زبيدة الردادة، وهي امرأة تسكن في الجزيرة تتولى توليد النساء وطبابتهن بالعلاجات الشعبية.
قارئة الجاحظ
لدى زبيدة ابنة أخت اسمها عذبة، أقحمتها الكاتبة في الرواية لتظهر نقيض الشخصيات الثلاث الأساسية، عذبة هي الفتاة التي اعتادت أن تراجع حفظها من القرآن الكريم خوفا من أن يتفلت من صدرها، أو تكتب خواطرها أو تقرأ كتب الجاحظ التي يجلبها زوج منيرة إليها مع الأقلام والدفاتر من البصرة، تسأل عذبة "كيف يخاطب الجاحظ عقول أهل الجزيرة الذين تمكن الوهم منهم، كأنه يعيش بينهم؟".
كبيرة المقام
أما أم وحيد فهي كبيرة المقام، تجاوزت شهرتها منطقتي شرق وجبلة لتصل سيرتها إلى كل سكان الساحلين الشرقي والغربي من الخليج العربي، "شاء الله أن يهبها ابنا بعد أن مات لها أربعة في المهد، عندئذ سألت الله - إن أبقى لها الأخير - فإنها لن تطلب ذرية بعده. كبر وحيدها وسافر إلى القاهرة ليتابع تعليمه، ونسي أمه التي غدت عيناها جمرتين، تبكي فتبردان، وهو مشرد وسط المباهج الجديدة التي أسرته وجعلته مسحورا بليل أم الدنيا".
جثة تحمل جنينا حيا
تستكمل الكاتبة القصة وتبدأ بالسرد التشويقي عن الجثة التي حملها الرجال إلى المقام، وما هي إلا ساعات حتى أخرجت زبيدة الجنين حيا، فاندلقت الصدمة في حناجر الرجال وحبستهم عن التعليق، ومع هذا، انتظروا حتى ابتلع الفجر حلكة الليل. امتثلوا لأمر ماريا فحملوا الغريقة إلى المقبرة ودفنوها بعد أن صلوا عليها، وكتبوا على صخرة اعتلت القبر، "الغريقة أم وليد المقام".
حقيقة الإيمان
بدء الأحداث السيئة
وها هن خادمات المقام غارقات في مشكلاتهن، فما بين مشكلة عقم منيرة، وشعوذة ماريا، وفلسفة عذبة، يختفي خالد الذي كان سندا لعذبة منذ وصولها إلى الجزيرة، وبعدها يبدأ فهد زوج منيرة الوقوع في غرام سندس، التي جاءت إلى الجزيرة مع فريق المنقبين الدنماركيين "كأن منيرة تفقده زهوه برجولته وتذكره بالعجز، وكأن سندس مائدة من وسلوى نزلت من السماء، اللذة التي يحلم بها ولم يجدها في مصيره الأعمى مع منيرة".
صراع طبقي
ووراء الطفل وليد قصة تدمع لها العين، إنه الصراع الطبقي حيث ألقت الضوء الكاتبة منى الشمري على تعامل الأغنياء مع الفقراء، فوالدة الوليد تدعى مريم وتعيش في عائلة مرموقة، أغرمت بخادم إيراني يدعى مهدي شاب، وحاولت الزواج به، لكن أهلها رفضوه رفضا مطلقا، إلا أنها بعد أن اختفى إخوتها ووالدهم لأعوام في البحر تزوجته، لأنها في حاجة إلى رجل يحميها ووالدتها، وبعد أن عادوا، دار عراك كبير وأرادوا أن يغسلوا العار، فهرب مهدي شاب إلى إيران، وهم سافروا بمريم لتوليدها في فليكا، ثم يتركونها هناك منفية مع زوجها ووليدها.
وفاة وحيد
تكمل الكاتبة في الأخبار السيئة التي بدأت تلاحق الجزيرة وخادمات المقام، فبعد خروج الوليد، تبلغت أم وحيد فقدان وحيدها في مصر، "كان هذا الطالب منتظما في دراسته في العام الأول، ثم انقطع عن الدراسة حين تعرف إلى شلة من أصدقاء السوء، فأدمن الكحول وتدخين الحشيش، والسهر، حتى وجده الحارس في الصباح ميتا".
وتستمر الأحداث الأليمة، حيث لقيت عذبة أخاها وعادت معه إلى ديارها، لكن وداعها لحبيبها خالد كان محزنا، وما إن مرت أشهر حتى توفيت أم وحيد بحسرة ابنها.
النهاية .. هدم المقام
انتهت قصة المقام بعد أن جاءت سيدة غنية تدعى شاهة بحراسة رجال الحكومة وأمرت بهدم المقام، فهي صاحبته وليست المشعوذة ماريا، "ومع إدبار النجوم هدم المقام، تنهدت الأرض براحة، واستيقظت لتغتسل وتتطهر، فشعر الجميع بهزة خفيفة، واصفرت الوجوه بخوف، تساءلوا، هل هذا حوت يونس قد أفاق من نومه، أم غضب مولاهم الخضر؟".
وفي فقرة هامشية أنهت الكاتبة منى الشمري روايتها قائلة "هدم مقام الخضر في فيلكا مرتين، الأولى في ثلاثينيات القرن الـ20، بأمر المرحوم أحمد خلف أمير الجزيرة الأسبق، ثم أعيد بناؤه أكثر من مرة خلال عقود، وفي منتصف السبعينيات هدم بأمر من بلدية الكويت بناء على فتوى من وزارة الأوقاف، مع منع وتحريم إعادة بنائه.
من منى الشمري؟
منى الشمري روائية وقاصة وسيناريست كويتية، درست المسرح والدراما في الكويت، حازت جوائز عدة، منها جائزة الدولة التشجيعية عن القصة القصيرة 2017، جائزة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 2017، جائزة الدولة التشجيعية الكويت 2018 عن روايتها "لا موسيقى في الأحمدي".