في مديح المشي .. «أمشي إذن أنا أفكر»
المشي نشاط إنساني رديف الوجود البشري على وجه الأرض، وشكل أحد مباحث الفلسفة منذ بواكيرها، وكان وراء ظهور المدرسة المشائية في الفلسفة اليونانية، حتى إن الفيلسوف أرسطو عرف بالمشاء، لأن من عادته أن يلقي دروسه ماشيا. فقد ساد الاعتقاد بأن المشي يسهل من عملية الكلام، وربما حتى التفكير.
انتقلت هذه الممارسة المتاحة أمام الأغلبية، وعلى قدم المساواة، من رحاب الفلسفة في القديم، لتقحم في العصر الراهن، وبشكل قسري، في المجال الرياضي، لدرجة يمكن معها القول إن رياضة المشي صارت موضة الزمن الراهن. شاع الأمر، رغم أن المشي ليس رياضة، لكونه يفتقد إلى التجهيزات والتقنيات والقواعد والنتائج والمباريات والتدريبات.. وما إلى ذلك مما تستوجب الرياضة استيفاءه.
هكذا إذن تسقط صفة الرياضة عن نشاط المشي، وفقد - قبل ذلك - الأنفة والأبهة اللتين منحتهما إياه الفلسفة، على مدى قرون من الزمن، فجل الفلاسفة تعاملوا مع المشي كحركة خلاقة، ما حدا بالفيلسوف الأمريكي هنري ثورو إلى التأكيد أن "الإنسان ينمو روحيا عندما يمشي في الطبيعة". وبلغ نيتشه فيلسوف الألمان، مبلغ التطرف، حين قال "لا تصدق أي فكرة لم تولد في الهواء الطلق أثناء التحرك بحرية. الجلوس هو أكبر خطيئة".
لم يسجل المشاة من الفلاسفة أسماءهم في سجل التاريخ فقط، بل تعدوه إلى ذاكرة الجغرافيا التي احتفظت بدورها بأسماء الأماكن التي مارس فيها هؤلاء مشيهم. فخلدت قديما، آغورا سقراط ورواق الأرسطيين وتيه الكلبيين. وحديثا، احتفظت بممر الفيلسوف كانط وزقاق نيتشه ودروب هايدجر ومسارات كريكجارد.. كيف لا يحدث هذا بعدما شاع القول إن الكوجيطو الديكارتي "أفكر إذن أنا موجود"، تراجع أمام مقولة مشيال سير "أمشي إذن أنا أفكر"، لأسبقية المشي هنا على التفكير.
يتطلب الانتماء إلى حركة المشائين الوفاء للأقدام في عملية التحرك، فكل الأدوات الأخرى المتاحة للحركة، التي تحول دون الجسد والأرض، غير مسموح بها. ودافع الفيلسوف فريديريك جرو، في كتابه "المشي فلسفة" (2010)، عن هذه القاعدة الأساسية، معتبرا "الجسد ليس آلة"، والوفاء له يجعل "المشاء ملكا والأرض هي مملكته".
بحكم الواقع، وتطبيقا لتلك القاعدة وحدها، سيكثر المشاؤون، فالأغلبية لا تزال تسير، ونشاط المشي لم ينقرض. لذا وجب إخراج المشي "الوظيفي"، أي المشي لغرض محدد، حيث تصبح مسافة الطريق بين المنزل والهدف مجرد عقبة، يلزم قطعها حتى نصل إلى الهدف، فالغاية هي الأصل، أما المشي في هذه الحالة فيبقى مجرد أداة. صحيح أن لهذا النوع من المشي بدوره منافع على الذات، لكنها قطعا لن تكون بحجم عوائد المشائين الأحرار.
يبقى المشي الحر إذن ذاك المشي الذي لا يتم فيه حساب الزمن، ولا فائدة بعينها مطلوبة منه، فهو أقرب إلى تجربة روحانية، فقد تحدث الفيلسوف جان جاك روسو عن "أن أفضل طريقة لتهذيب النفس هي المشي الحر في أحضان الطبيعة". يعد هذا المشي شكلا تأمليا يمكن من بلوغ درجة اليقظة التامة، فيجعل الجسد أكثر وضوحا وانتباها، وأكثر انفتاحا، بحكم الاستمرارية الحركية غير القابلة للتغير، حتى قيل إن المشي هو عدم توازن مشدود بحراسة تشكل سندا مهما للانتباه اليقظ".
عادة ما يمارس هذا المشي بشكل فردي أو مع شخص آخر، فأحد مقاصده إيجاد الإيقاع الخاص بالمعني به، أي الإيقاع الذي يناسبه، بحيث لا يتعب ولو مشى ساعات طويلة. عكس واقع الحال عندما يكون المطلوب ضبط الإيقاع الشخصي على إيقاع آخر، أما المشي في مجموعات فبلا عائد يذكر، لأن الضوضاء التي تثيرها الجماعة تكون دون تحقيق غايات المشي.
وهذا ما خلص إليه هنري ثورو، من تجربته الخلاقة مع المشي، بتأكيده أنه "حالة تأملية خاصة، يقوم بها فرد لا يمكن استبداله بآخر". وتعلق الرجل بالمشي تعلقا غريبا، جعله كان يمشي خمس ساعات في اليوم، معتبرا "المشي فعل معرفة وأداة للتعرف إلى الواقع والذات". تنظيرات لم يتوان المهاتما غاندي عن ترجمتها على أرض الواقع، فقد جعل المشي ممارسة روحانية، ثم ما لبث أن صيره ممارسة سياسية وسبيلا للمقاومة. وكانت مسيرة الملح الشهيرة، خطوة مهمة في مشوار استقلال الهند عن التاج البريطاني.
راوح وقع المشي في عقول ونفوس الفلاسفة عبر الحقب والأزمان، فهناك من رأى في المشي الحر عودة إلى الكون، بالمعني الذي يجد فيه المشاء نفسه تابعا لإيقاع الطبيعة والعالم، منغمسا في دوائره اللا متناهية، وكأنه أمام ولادة جديدة، وعده آخرون طريقا للحرية، فالمشاء طليق يختار الاتجاه الذي يريد، ويذهب ويعود بملء إرادته، دون إلزام ولا إكراه ولا ضغط، فكل ما يحتاج إليه المشاء فضاء طبيعي وساقان لا غير.
يرفع الفيلسوف مشيال سير من وقع المشي، حين ينظر إليه كرحلة عبر الزمن، فالمشي يتعدى التجوال نحو السير بين العلامات والتواريخ، بين خيوط مفتولة بحبال الزمن في مداراته الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل. يرفض الرجل التعاطي مع مشاهد جنبات الطريق مثل نفايات للسلف، إنها ذاكرة مسجلة ومدرجة على الأرض، ذاكرة من مروا من المكان. بذلك يكون الطريق نوعا من الوصل ليس في المكان فقط، بل حتى في الزمان.
الجميع مارس المشي، في الماضي والحاضر، ومقبل عليه مستقبلا، لكن أقلية قليلة من زاولته، وفق شروط وضوابط المدرسة المشائية في الفلسفة، أي التحرر من الوجهة، والمشي بهدف السير لذاته فقط، بعيدا عن إكراهات الزمن والمكان والأشخاص. لحظتها فقط - بحسب الكاتبة ريبيكا سولنيت في كتابها "تاريخ المشي" (2001) - "سيولد إيقاع المشي نوعا من إيقاع التفكير، حيث المرور عبر المساحات يحفز ممرات موازية عبر الأفكار، ما يوجد تناغما غريبا بين الممرات الداخلية والخارجية، حيث يشير إلى أن العقل أيضا هو - نوعا ما - مساحة، وأن المشي هو طريقة لقطع تلك المساحة".