اتجاهات متباينة للاستثمارات العالمية في 2022 .. هل انتهى عصر العوائد السهلة؟
لا جدال بأن الاقتصاد العالمي ككل، والاستثمارات الدولية على وجه الخصوص، تعرضت لهزات ضخمة نتيجة وباء كورونا خلال العامين الماضيين.
ولا مراء أيضا في أن الوباء جلب تحديات وأتاح في الوقت ذاته فرصا استثمارية جديدة خلال العامين المنصرمين، وسط قناعة سائدة حاليا في الأسواق العالمية بأن قادة الأعمال وكبار المستثمرين سيواصلون العمل خلال العام الجاري للاستجابة لتلك التحديات واستغلال الفرص المتاحة إلى الحد الأقصى.
أبرز التداعيات السلبية لوباء كورونا على الاستثمار العالمي كانت في 2020، إذ انخفضت تدفقات الاستثمار العالمي بنسبة هائلة بلغت 35 في المائة، وذلك وفقا لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد).
وتظهر أحدث البيانات أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر العالمية انتعشت في النصف الأول من العام الماضي 2021، لتبلغ نحو 852 مليار دولار، لكن هذا الانتعاش أصيب إلى حد ما بالثبات خلال النصف الثاني من العام ذاته.
وسط تلك الصورة العامة للاستثمارات الدولية خلال العامين الماضيين، فإن التساؤل حول اتجاهات وتوجهات التدفقات الاستثمارية العالمية في 2022، والقطاعات التي يتوقع أن تتوجه إليها، يعد أمرا شديد الأهمية لصانع القرار الاقتصادي والاستثماري معا، ليتيح له القدرة على رسم مشهد دقيق يساعده على وضع الاستراتيجية الاستثمارية في 2022، مع تركيز أكبر على القطاعات التي يتوقع أن تحظى بجاذبية استثمارية لدى كبار المستثمرين في العالم عبر توجيه قدرتهم المالية إليها.
من وجهة نظر الخبير الاستثماري إم.دي.جاك فإن تدفقات الاستثمار العالمي هذا العام ستحمل في طياتها بعضا من الملامح الاستثمارية للعام الماضي، وأبرزها عدم المساواة الآخذة في الارتفاع في عالم الاستثمار الأجنبي.
ويقول لـ"الاقتصادية" إنه "منذ اندلاع وباء كورونا شهدت أفقر دول العالم مقارنة بالدول المتقدمة الانخفاض الأكبر في الاستثمار الأجنبي المباشر الرئيس خاصة الذي يركز على قطاعات البنية الأساسية تحديدا، وذلك لأن معدلات التطعيم لا تزال متخلفة عن الركب في دول العالم النامي، ما يعيق الاستثمار والانتعاش الاقتصادي فيها، ومن المرجح أن التفاوت المتزايد بين قابلية الدول المتقدمة أو الاقتصادات الناشئة التي قامت بعمليات تطعيم واسعة النطاق والدول النامية في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة ستواصل التفاقم هذا العام".
ويعد الخبير الاسثماري إم.دي. جاك أن هذا الوضع سيترك عواقب وخيمة على الدول ذات الدخل المنخفض في العالم، حيث يعد الاستثمار الأجنبي المباشر عاملا أساسيا في تنميتها الاقتصادية، عبر توفير جزء كبير من فرص العمل المحلية والقيمة المضافة للسلع المصنعة، مشددا على ضرورة تكافل الجهد العالمي لتوجيه المزيد من الاستثمارات إلى مجالات الطاقة والغذاء والزراعة والصحة لدعم خطط التنمية المستدامة التي تعد أكثر إلحاحا للتعافي من الجائحة.
لكن هذا الوضع لا ينفي أن هناك ثقة متزايدة يتوقع أن تسود بين المستثمرين في 2022 لتوجيه المزيد من التدفقات المالية إلى مجال البنية التحتية، مدعومين في ذلك بالظروف المواتية حاليا لتمويل المشاريع طويلة الأجل، وحزم الإنعاش الاقتصادي، وسط توقعات أن ترتفع صفقات التمويل الدولية حتى وإن تركزت في المناطق ذات الدخل المرتفع في آسيا وأمريكا الجنوبية تحديدا.
لكن قابلية المستثمرين على القيام بمزيد من الاستثمارات في مجالات البنية التحتية هذا العام، تترافق مع غياب الثقة لديهم تجاه الكثير من القطاعات الصناعية التي لا تزال متأثرة بالمتحورات التي تظهر من الوباء من حين إلى آخر، وكذلك القصور الراهن في سلاسل التوريد بما يعنيه ذلك من احتمال أن تنخفض التدفقات الاستثمارية في هذين المجالين سواء من حيث القيمة أو العدد في 2022.
من جهته، يشير لـ"الاقتصادية" جيمس كريس الخبير المالي في بورصة لندن إلى أن الانتعاش غير المتكافئ في التدفقات الاستثمارية سيترافق مع صور مختلطة بشأن رؤية المستثمرين للقطاعات التي يجب أن تنصب عليها استثماراتهم، وبقدر ما يتضمنه الاستثمار في قطاعات البنية التحتية هذا العام من جاذبية، فإن القطاعات الصناعية واللوجستية قد لا تتمتع بجاذبية مماثلة حتى يستعيد الاقتصاد الدولي عافيته التامة.
في هذا السياق يرى جيمس كريس أن أبرز الاتجاهات الاستثمارية في هذا العام ستضع في اعتبارها أن العوائد الاستثمارية السهلة قد انتهت بالنسبة للأسهم والائتمانات وسندات الخزانة الأمريكية، لكن لا تزال هناك جاذبية للأسهم الأوروبية واليابانية. لكنه يعتقد أن المستثمرين سيواجهون ديناميكية مختلفة جدا هذا العام، نتيجة التغييرات الدولية في السياسة النقدية التي تتبنها البنوك المركزية.
وتترافق تلك التحليلات مع تقديرات لعدد من المؤسسات المالية الدولية بأن الاستثمار الدولي قد ينأى بنفسه عن الأسواق الأمريكية بسبب توقع أن ينخفض مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 5 في المائة هذا العام، بينما تستمر سياسات التحفيز الاقتصادي في اليابان وإعادة فتح الأعمال التجارية، وتواصل النفقات الرأسمالية القوية والكبيرة من قبل الحكومة اليابانية، ما يرجح معه أن تشهد الاستثمارات الدولية اتجاها متزايد نحو البورصة اليابانية مع توقعات بارتفاع الأسهم اليابانية بنسبة 12 في المائة في 2022.
أما في أوروبا فالمتوقع أن تؤدي عمليات الاستحواذ والاندماج وتنامي عمليات إعادة الشراء إلى أن تحقق الأسهم الأوروبية عائدا بنسبة 8 في المائة.
مع هذا يرى بعض الخبراء أن أحد أبرز الاتجاهات الاستثمارية ستتركز في مزيد من الاستثمارات في الصناديق المتداولة في البورصة وتحديدا الصناديق التي تركز على قطاعات محددة. ففي العام الماضي تدفق أكثر من 100 مليار دولار على صناديق الاستثمار المتداولة في قطاع الأسهم، ارتفاعا من 70 مليار دولار في 2020، وفي هذا السياق فإن التقديرات الراهنة تشير إلى قدرة تلك الصناديق على استقطاب جزء كبير من الاستثمارات العالمية.
لكن هذا سيتطلب من وجهة نظر البعض تقييما دقيقا لصناديق الاستثمار المتداولة إذ يجب على المستثمرين أن ينظروا إلى أكبر عشر حيازات في الصندوق لتحديد مدى قوته داخل القطاع، وغالبا ما سيتم استهداف الصناديق التي تركز على الشركات ذات الجودة الأعلى نظرا لاستمرار المخاطر في الأسواق نتيجة وباء كورونا.
إلا أن البروفيسور إل. سي تشارلز أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة باث يرى أن الاتجاه العام للاستثمار خلال العام الجاري سيتحدد في الجزء الأكبر منه بوضع الاقتصاد الصيني والقدرة الاستثمارية للصين ونمط الاستثمار الأجنبي المباشر لرجال الأعمال والحكومة الصينية، مشيرا إلى تباطؤ الاستثمار الأجنبي المباشر من الصين بشكل كبير منذ 2017، وأن هذا التباطؤ سيستمر - من وجهة نظره - في 2022 أيضا.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "مجموعة من العوامل الداخلية أدت إلى كبح جماح الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني منذ عدة أعوام، وتلك العوامل لا تزال قائمة، وقد سرع وباء كورونا هذا الاتجاه الموجود بالفعل، وقد شهدت مشاريع مبادرة الحزام والطريق الصينية تباطؤا حتى قبل تفشي الوباء".
ويضيف "أوجد الوباء والحملة الغربية ضد الصين بيئة عالمية أقل ترحيبا بالاستثمارات الصينية، فمنذ تفشي كورونا زاد عدد القوانين التي تهدف إلى فحص الاستثمارات الصينية بشكل ملحوظ في العديد من الدول الغربية، هذا الاتجاه سيستمر، ولا يعني ذلك بالطبع أن الاستثمارات الصينية على المستوى الدولي أو في أوروبا الغربية والولايات المتحدة ستجف وتتوقف ولكن المؤكد أنها ستتقلص وستكون أصغر من حيث القيمة والعدد".
ويعتقد البروفيسور إل.سي. تشارلز أن الصين باعتبارها لاعبا أساسيا في مجال الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإن توجهاتها الاستثمارية ستركز أكثر على الاستثمارات التجارية البحتة والمعاملات التي لا تنطوي على مخاطر الملكية الفكرية أو القطاعات الاستثمارية المرتبطة بالأمن القومي، مع تركيز أكبر على الاستثمار في الدول الحليفة والأقرب جغرافيا من الصين.