«دونت لوك أب» .. صراع العلم والثروة
يشكل موضوع نهاية العالم عنصرا جاذبا لعديد من المخرجين والمنتجين، نظرا إلى كمية التشويق التي تظهرها هذه النوعية من الأفلام، حيث تجعل المشاهد أسير اللحظة، وعلى الرغم من انتشار الفكرة بشكل مفرط في الأعوام السابقة بإيحاءات من الأحداث المدمرة التي تطغى على العالم، إلا أن كل فيلم يتميز بطرح جديد وتوجه مختلف، يواكب المستجدات العالمية، كفيلم "لا تنظر للأعلى" Don’t look up الذي جاء استثنائيا بالمقاييس كافة، ومواكبا ليس فقط للأحداث، بل لشخصيات سياسية اقتصادية مؤثرة في الشأن العام عالميا.
قضايا سياسية اجتماعية واقعية
مع صدور فيلم "لا تنظر للأعلى" نستذكر فيلم "2012" الذي تنبأ بنهاية العالم نتيجة الكوارث الطبيعية، إضافة إلى فيلم FLU الذي طرح قضية نهاية العالم عن طريق انتشار فيروس، وغيرهما كثير من الأفلام التي تتمحور حول إنقاذ البشرية، لكن اختلاف هذا الفيلم جاء بمقاربته بين الظاهر والباطن، فهو في الظاهر يعالج قضية مذنب قريب من كوكب الأرض وسيقضي على البشرية في غضون ستة أشهر، أما في الباطن والخفايا فهو يعالج عديدا من القضايا الحساسة في العالم، مثل قضية التغير المناخي وتأثيرها السلبي في الأرض، إضافة إلى قضية المستوى المتدني لوسائل التواصل الاجتماعي والتسطيح البشري، جميعها جاءت في فيلم مدته نحو ساعتين ونصف، حاول خلالها المخرج آدام ماكاي بأسلوبه السياسي الساخر المعهود أن يلقي الضوء عليها، والنهاية جاءت صادمة لبداية صارخة!
البشرية إلى زوال
الصرخة جاءت من كيت ديباسكاي، طالبة دراسات عليا في جامعة متشيجان ومرشحة لنيل درجة الدكتوراه في علم الفلك، تلعب دورها الممثلة جنيفر لورانس، تكتشف هي وبروفيسورها الدكتور راندال ميندي، يلعب دوره الممثل ليوناردو ديكابريو، أن مذنبا يبلغ عرضه تسعة كيلومترات سيضرب الأرض ويدمرها بعد نحو ستة أشهر، إنه "مدمر للكواكب" كما يطلقون على مذنبات هكذا، وبالتالي سيؤدي إلى نهاية الحياة على كوكب الأرض.
استهتار البشر
خبر بهذه الأهمية بالنسبة إلى طالبة الدكتوراه وبروفيسورها يجب أن يهز العالم، ويدفعهما إلى البحث عن كيفية تدميره قبل أن يقضي على البشرية، لكن الرياح لم تجر كما اشتهت سفنهما، فأخذا اكتشافهما ودخلا به إلى البيت الأبيض برفقة الدكتور تيدي أوجليثورب رئيس مكتب الدفاع الكوكبي التابع لوكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، يؤدي دوره الممثل روب مورجان، وجلسا يخبران الرئيسة جاني أورليان، تؤدي دورها الممثلة ميريل ستريب، ويناقشان معها هذا الأمر الخطير، لإيجاد حلول. لكن عندما شرح ميندي وكيت الموقف الرهيب للرئيسة أورليان وابنها جيسون أورليان رئيس الأركان، يؤدي دوره الممثل جونا هيل، لم يهتما بهذا الأمر، بل قاما بالاستهتار والسخرية منهما، بينما كان اهتمامهما ينصب على الفوز في انتخابات التجديد النصفي.
في هذا الموقف يصور المخرج ماكاي الذي أخرج أفلاما مثل The Big Short و Vice و The Other Guys، لا مبالاة بعض المسؤولين بالقضايا المهمة، وكيف أنهم يهتمون بالسخافات على حساب الأهميات، وعمد المخرج إلى تصوير استخفافهما بالعلم وصب جل اهتمامهما على تحقيق مكاسب سياسية بقرارات عشوائية غير مدروسة، وهو ما اتضح في لقطات مختلفة، منها مشهد انتظار العلماء في بداية الفيلم، بحجة أن الرئيسة في اجتماع مهم، بينما الجميع يحتفل بعيد ميلاد داخل المكتب.
اهتمام بالقضايا التافهة
بعد فشل محادثات ميندي وديباسكاي مع رئيسة الولايات المتحدة لم يجدا أمامهما من سبيل سوى اللجوء إلى وسائل الإعلام، من أجل تحذير الناس، فقاما بتسريب المعلومات إلى صحيفة "نيويورك هيرالد"، لكن مع الأسف يتخلى محررو الصحيفة عن هذه القصة نظرا إلى عدم تحقيقها مشاهدات على الإنترنت، حيث طغت على وسائل التواصل الاجتماعي القضايا التافهة التي تتعلق بالحياة الشخصية للمشاهير، وصورها المخرج في مشهد يظهر اهتمام الجميع بانفصال مطربة، أدت دورها آريانا جريند، عن حبيبها الموزع الموسيقي أكثر من اهتمامهم بالبقاء على قيد الحياة، وحتى عندما يدرك الناس حقيقة ما يجري، فإنهم ينقسمون بين مصدق ومكذب للمسألة، مع انتشار نظريات المؤامرة، وحملة "لا تنظروا للأعلى" التي هي عنوان الفيلم، في تصوير لمدى إنكار البشر للواقع وإشاحة نظرهم بعيدا عما هو حقيقي وواضح أمامهم لو أمعنوا النظر حقا.
جشع الأثرياء أم ضعف حيلة العلماء؟
في لفتة انتقادية أخرى من المخرج تجاه الأثرياء، سلط الفيلم الضوء على رجل ثري يدعى بيتر إيشرويل، يؤدي دوره الممثل مارك ريلانس، الذي حصل من قبل على "أوسكار أفضل ممثل مساعد" عن دوره في فيلم Bridge of Spies، ويشغل في الفيلم منصب المدير التنفيذي لشركة باش التكنولوجية، وهو المسؤول عن عودة الفريق المكلف بمهمة تدمير المذنب، ولقد طالب بتنفيذ العودة طمعا منه في المعادن الطبيعية الموجودة في جسم النيزك بعد سقوطه على الأرض، أما ميريل ستريب فلم تبد أي اعتراض بل وافقت، لأنه الممول الأكبر في حملتها الانتخابية، والمصلحة الشخصية فوق كل اعتبار.
الإعلام بعيد عن دوره الهادف
يعرج الفيلم على دور الإعلام في التعامل مع قضايا مصيرية مهمة، فبدلا من إعطاء الصورة الحقيقية للأزمة التي ستضرب الأرض، قاموا من خلال أشهر برنامج تلفزيوني بالاستخفاف بفكرة وجود مذنب سيقضي على الأرض، وعندما حل كل من ميندي وكيت ضيفين على البرنامج الشهير الذي يتابعه ملايين، حاولت المذيعة التي تؤدي دورها كيت بلانشيت الممثلة الأسترالية، تبسيط القضية، في محاولة منها لقلب الحقائق والتأثير في الرأي العام وأخذه في اتجاه بعيد عن الحقيقة المدمرة.
أداء جيد
أسهم الأداء الجيد للمثلين في نجاح إيصال الأفكار، فقدمت ميرل ستريب الفائزة بـ"الأوسكار"، أداء متألقا في دور شرير، لم نرها فيه منذ فيلمThe Devil Wears Prada، ونجحت بشكل رائع في تجسيد الرئيسة اللا مبالية سوى بنفسها، وليس حتى بابنها. من ناحية أخرى هناك بلانشيت التي تلعب دور المذيعة المزعجة التي لا تهتم لشيء سوى إضفاء طابع السخرية على أي موضوع يتحدثون عنه على الهواء بشكل رائع أيضا، أما الممثل ليوناردو دي كابريو فقدم شخصية مغايرة لطبيعته الدرامية، وأجاد تقمص شخصية الرجل المرتبك في بداية الفيلم نتيجة هول الأزمة، وبعد أن أصبح الناطق الرسمي على وسائل الإعلام تغير الأداء وأصبح أكثر إتقانا للغة الحوار، ويقدم أفكاره بكل ثقة.
وانتهت البشرية
النهاية كانت صادمة، حيث ضرب المذنب الأرض وقضى على البشرية، لكن قبل ذلك قام فئة من الأثرياء بالهرب على متن صاروخ اخترق المذنب، وفروا تاركين وراءهم البشرية تندثر، في إشارة إلى جشع الأثرياء وبعض المسؤولين الذين يهملون البشر ويهينونهم للنفاذ بأنفسهم ومشاريعهم. إنها نهاية صادمة، لكنها حقيقية لواقع سوداوي نعيشه على الأصعدة كافة.