الصين تستبدل الأدب بالسينما لتضمن الهيمنة

الصين تستبدل الأدب بالسينما لتضمن الهيمنة
السينما مسلك للترويج لثقافة وقيم وعادات التنين الصيني عالميا.
الصين تستبدل الأدب بالسينما لتضمن الهيمنة
الأديب الصيني ليو جين يون.

نوعت الدول الكبرى، على مر التاريخ، طرق الهيمنة وأساليب فرض السيطرة على الأمم والشعوب المستضعفة، فبدأت بالقوة الخشنة "الجيوش والأسلحة.."، قبل الاهتداء إلى القوة الناعمة "المساعدات، الاقتصاد، الثقافة.."، بعدما تيقنت أن صناعة نخب محلية أيسر الطرق لضمان التغلغل السريع داخل بنية الدولة، وتعبيد الطريق أمام تحقيق الولاء والتبعية. تفاوتت الدول في استخدام هذه الأساليب، بحسب أيديولوجيتها الاستعمارية، لدرجة صار معها الاستعمار الثقافي ثابتا في السياسة الخارجية لعدد من الدول "فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، روسيا..".
تحاول الصين، في سياق تنافسها مع الولايات المتحدة الأمريكية، تنويع المداخل لتحقيق السيطرة والاستحواذ. واستطاع الصينيون التكيف مع متطلبات المرحلة، فاستبدلوا الأدب بالسينما في مجال الغزو الثقافي، بعدما فطنوا إلى أن الإنسانية غارقة في عصر الصورة، فقد باتت الرهان على النص والحرف في زمن الثورة التكنولوجية بلا عائد ولا أثر، ما دفع مهندسي الغزو الصيني نحو اعتماد السينما مسلكا للترويج لثقافة وقيم وعادات التنين الصيني عالميا، بدلا من الكتب والروايات والقصص والمجلات والجرائد. يبقى دفع التكيف مع روح العصر مقبولا ومنطقيا، ولا سيما أنه صادر عن دولة حولت البراجماتية إلى عقيدة، بيد أن إطلالة سريعة على منتخبات لأشهر الروايات التي جادت بها الساحة الثقافية الصينية، تكشف عن أن التخلي عن الأدب وراءه دواع أخرى، غير تلك المبررات التي تساق عند أي نقاش عن دواعي انحصار الأدب الصيني عالميا، وعجزه عن مسايرة التمدد والاكتساح الصيني للعالم.
تكفي أعمال الأديب ليو جين يون - "الرجل الأخف دما في الصين" كما يصفه أغلب النقاد، بسبب نزعته الانتقادية، وجرأته على معالجة أكثر المسائل حساسية في الصين، بحرفية في تحليل المجتمع، من خلال طبقاته الدنيا، وتفكيك سمات الشخصية الصينية بلا عوائق ثقافية، بمنظار فكاهي وكوميدي ساخر، يكسبه تعاطف القارئ، مع القدرة على الإفلات من رقابة النظام السياسي الحاكم - شاهدا ومفسرا لدواعي تردد الصين في تسويق آدابها على أوسع نطاق عالميا.
كان هذا السبب الرئيس في انتشار مؤلفات هذا الأديب الصيني المعاصر خارج الصين، إذ لقيت رواجا في عديد من دول العالم، وترجمت إلى نحو 40 لغة عالمية. وزادت عناية السينمائيين بأعمال الرجل شهرة في الآفاق، في 2003، تحولت رواية "الهاتف الخلوي" إلى فيلم سينمائي، ثم بعدها إلى مسلسل في 36 حلقة، وكذلك كان الأمر مع رواية "حادثة 1942" التي صارت بدورها فيلما سينمائيا، كسب عديدا من الجوائز من بينها جائزة أفضل سيناريو.
تعد رواية "طلاق على الطريقة الصينية" (304 صفحات) أحدث أعمال ليو المترجمة إلى اللغة العربية، التي تسرد في بادئ الأمر تفاصيل قصة طلاق بسيطة، تتشعب لتصبح، مع مضي الوقت، قضية عامة، غيرت مصائر وحياة كثيرين. تحكي الرواية عن ثقة أوكلتها البطلة إلى زوجها، لكنها لم تتنبه إلى مخاطر هذه الثقة العمياء المحفوفة بالمخاطر، فالثقة شعور ينبع من العقل والمشاعر معا، لكن عندما تشوبها المنفعة، فقد تتبدل إلى خيانة. تكتنف ثنايا السرد رحلة شاقة للبحث عن الثقة المفقودة في الصين، دولة ومجتمعا، ما أحاط الرواية بضجة كبيرة نتيجة هذا الطابع السياسي الذي تكتسيه.
يحكي ليو قصة "لي شوليان" الفلاحة الصينية التي تواصل الشكوى لمدة 20 عاما بلا كلل من ظلم زوجها "تشين يوخه"، الذي اتفقت معه على أن يطلقها على أن يتزوجها من جديد، بعد مرور ستة أشهر، وذلك بعدما فوجئت بأنها حامل بطفل ثان، ما سيكلف زوجها الطرد من الوظيفة، وفق قانون تحديد النسل بطفل واحد. لكن الزوج سيجعل الطلاق حقيقيا، ويتهرب من تنفيذ وعده بالزواج منها ثانية، ليبادر في المقابل بالزواج بامرأة أخرى، تنجب له طفلا.
تيقنت البطلة من عبثية الدعوى، بعدما رفض القاضي ادعاءها بزيف الطلاق، حالما برزت له الوثيقة الرسمية عن واقعة الطلاق، ما دفعها إلى البحث عن سبل لدفع الظلم ونيل العدالة، مع اتساع دائرة المساهمين في تخييب آمالها، من الزوج إلى القاضي، فعضو اللجنة القضائية، وصولا إلى رئيس الهيئة القضائية، لتقرر تقديم شكوى ضد هؤلاء جميعا، تضاف إليها شكوى ضد نفسها.
قررت لي حمل شكواها إلى القيادة في بكين، مستغلة مناسبة انعقاد مؤتمر القيادات ونواب المحافظات، ونجحت بالحيلة في التسلل إلى قاعة النواب، لتترافع عن نفسها بالقول "أنا مظلومة". لم يحل قرار حبسها لانتحال صفة النائبة دون استدعائها من لدن المسؤول الكبير، لتدلي بما تشكوه، وتشفي قليلا من غليلها بذكرها وقائع الرشوة والفساد، والمماطلة... وتكشف أسماء قضاة وموظفين مرتشين، ومحافظين ممن لم ينظروا في شكواها، وردوها خائبة، لتصدر في حينه، أوامر بتنحية المتواطئين على ظلم هذه السيدة، وتعيين آخرين مكانهم.
بعيدا عن تفاصيل حكاية الطلاق، تقدم الرواية في ثناياها، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، "صورة عن قرب للسياسة المحلية التي هي المحرك لكل شيء في الصين". ويعلق هاوارد جولدبلات المترجم الأمريكي على الرواية بقوله "قصة بارعة ستجعلك تضحك وتبكي. كلماته بسيطة لكنها ستظل باقية في ذاكرتك لفترة طويلة. حكاية بارعة تجعلك تضحك حتى وأنت مبتئس، إنها ببساطة هجاء خفي ماكر".
إنه سبب تحفظ الصين على اعتماد الأدب وسيلة للانتشار في العالم، فما تحتويه الأعمال الأدبية لا يصب في مصلحة النظام. ولا سيما مع الجيل الجديد من المبدعين، ممن تخلصوا من عقيدة الحزب الحاكم، وعاشوا زمن الرفاهية الصينية، ما جعل أعمالهم قنابل ملغومة مرشحة للانفجار في أي وقت بين يدي النظام الحاكم في الصين. لذلك يحرص النظام الصيني على إبعاد الاهتمام بالأدب، لكون متونه "كاشفة فاضحة" لأعمال المجتمع والدولة في الصين، بعيدا عن الصورة المشرقة للنموذج الصيني المروج لها في وسائل الإعلام والأفلام.

الأكثر قراءة