آليات التغير الثقافي

هل تتغير الثقافة؟ سؤال طرحته على نفسي على أمل الحصول على إجابة بشأنه، وقد جعلت من مشاهداتي، وقراءاتي، وأطروحات المفكرين، والمنظرين أساسا أنطلق منه للإجابة عن السؤال، ولعل من المناسب الإشارة إلى أن التغير المقصود ليس بالضرورة التغير الكلي، أو ما يمكن تسميته بالتجريف الثقافي الذي يتم بموجبه تغيير ثقافة مجتمع ليحل محلها ثقافة مستوردة من مجتمع آخر، رغم أن هذا الهدف قد يكون حاضرا لدى المخططين في المجتمعات التي تجد في نفسها الأكثر تأهيلا لتحقيق الهدف في مجتمعات أخرى، نظرا لامتلاكها أدوات التغيير، أو لضعف، وهشاشة المجتمع الآخر، ووجود ثقوب يمكن النفاذ منها إلى المكونات الثقافية، وإحداث التغيير فيها.
أدوات التغيير، وآلياته الفاعلة كثيرة، وتحدث أثرها إذا ما تم توظيفها بشكل صحيح، ومنها وجود إرادة اجتماعية وسياسية تتبنى هذا التوجه، فالإرادة تمثل حجر الأساس وبناء عليها ترسم الخطط، ويتم السعي لتوفير الإمكانات، مع إدراك أن تغيير ثقافة المجتمع الآخر ذات حساسية بالغة، لما للثقافة من أهمية في تشكيل الهوية، وشعور أفراد المجتمع المستهدف بتغيير ثقافتهم، ضرورة وجود ردود فعل قوية تأخذ طابع المقاومة الثقافية على شكل مقالات، أو كتب، أو برامج إعلامية تبين الخلل، ومصادر الخطر الذي يحمله الوافد الجديد.
الأسلوب المتدرج الذي يأخذ طابع المراحل، ويقيم ما تم إنجازه يمثل أسلوبا مناسبا لتحقيق النجاح، إذ إن عملية التقييم تكشف للقائمين على عملية التغيير الصعوبات، والمشكلات التي تواجه عملية تنفيذ البرنامج، وكيفية تجاوزها، والحلول المناسبة لتجاوز العقبات، كما أن نجاح برنامج التغيير يتطلب المرونة في البرنامج، حيث تتغير الآليات حسب الظروف، والمواقف، وهذا يتطلب القدرة على فهم الظروف، والتعامل معها بما يناسبها.
تغيير الثقافة الاجتماعية الناجح يأخذ في الحسبان تقسيم المجتمع المستهدف إلى شرائح، وفئات ما بين شباب، وأطفال، وكبار سن، وكذا تقسيمهم حسب المستويات التعليمية بهدف تقديم الجرعات الثقافية بما يناسب كل فئة. المثيرات، والرموز، والمحتوى المقدم في كاريكاتير، أو فيلم، أو قصة، أو كتاب هي كذلك لا تقدم جزافا، بل يؤخذ في الحسبان نضج، واستيعاب، ودرجة القابلية تجنبا لردود الفعل العنيفة الممكن حدوثها.
أسلوب التشويق عادة يكون أكثر دغدغة للمشاعر، فالحكواتي قد يمرر رسائل ثقافية بالغة الأهمية دون أن ينتبه لها أحد، لكن مفعولها قد يكون قويا في قبول الفكرة المتضمنة، والتماهي معها شعورا، وسلوكا، وهذا ما يريده من يسعى لتغيير ثقافة الآخر، كما أن ما يناسب كل فئة عمرية، أو ذات مستوى تعليمي يساعد على اختيار الطريقة المناسبة لإيصال الرسالة، ومن ثم إحداث التغيير الثقافي المنشود، فعلى سبيل المثال الألوان، وكذا الدمى المتحركة ذات جاذبية قوية للأطفال، ويمكن توظيفها بشكل فعال لغرس البذور الثقافية.
حدثني أحد الأصدقاء أنه في زيارة للهند، والتقى أحد المهندسين الكبار الذي يرأس إحدى الشركات العملاقة على المستوى الدولي فلما ذهبا لوجبة الغداء قال المهندس لصاحبي: اسمح لي سأستخدم يدي للأكل، أما أنت لك الخيار فكل كما تشاء مع علمه بعادة العرب بالأكل باليد، وهذا الفعل يؤكد اعتزاز المهندس بثقافته، وانغماسه فيها شعورا، وممارسة مع ما قد يوجه لهذه الممارسة من نقد، خاصة من منتسبي الثقافة الغربية.
المذيعة الأمريكية الشهيرة أوبرا في إحدى حلقات برنامجها المبثوثة من الهند جعلت من الأكل باليد مادة للتندر، مظهرة علامات السخرية، وكأن الأكل باليد مسبة، وتناست أنها تتعامل مع شعب منغمس في ثقافته، متمسك بها، وغير مبال لما يوجه لهذه العادة من نقد. البريطانيون يحافظون على مشروبهم المفضل مثبتين تمسكهم بشيء من ثقافتهم رغم اكتساح القهوة الأمريكية، والتركية وتربعهما على عرش المشروب المفضل، خاصة عند الشباب، ومن يدخل الأسواق يلفت نظره أكواب القهوة في أيدي كثيرين، وكأن حامليها يقولون، وبلغة صامتة: ها نحن مع الموضة أو "الهبة القهوجية".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي