مترجمون: المملكة تعيش عصرا ثقافيا ذهبيا
الترجمة فن وعلم، سياسة واقتصاد واجتماع وثقافة، وإن اعتبرنا اللغة وزير داخلية الثقافة الواحدة، فالترجمة هي وزير خارجيتها، كما وصفها الدكتور محمد البركاتي رئيس مجلس إدارة جمعية الترجمة.
"كليلة ودمنة"، و"التقريب والتغريب"، و"تأهيل المترجمين وتفرغهم"، وغيرها من القضايا كانت محاور ملتقى الترجمة الذي نظمته هيئة الأدب والنشر والترجمة في مقر وزارة التعليم في الرياض. وعلى مدى يومين قدم الملتقى ثماني جلسات حوارية شارك فيها أكثر من 20 متحدثا من داخل المملكة وخارجها، إضافة إلى عشر ورش عملية أتاحت للمترجمين لقاء خبراء الترجمة المحليين والدوليين.. وتلقي "الاقتصادية" الضوء على بعض مما دار فيه.
ازدهار أم معول هدم؟
واقع نشاط الترجمة في المملكة والعالم، والتحديات التي تواجهه، كان محل تركيز المترجمين، في وقت عبر عنه الدكتور محمد حسن علوان الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة في مستهل الملتقى "نحن بحاجة إلى الترجمة أكثر من أي وقت مضى، وذلك من أجل وطن أكثر اعتدادا بمكوناته المحلية، وأكثر انسجاما مع محيطه الدولي".
علوان تحدث عن الترجمة بصفتها نشاطا متعدد الأبعاد، يمارسه المحترف والهاوي، المؤسسات والأفراد، الحكومات والشركات والقطاعات غير الربحية، يعد ضرورة لا ترفا، ومقوما أساسيا من مقومات النهوض والحضارة.
ولعل من أهم جلسات الملتقى كانت جلسة "الترجمة ودورها في تقريب ثقافات الأمم"، التي شارك فيها أكاديميون ومترجمون لهم باع طويلة في هذا النشاط، إذ تحدثت فيها الدكتورة مارثا لوسيا عن مدينة "لوريكا" الكولومبية التي تمتزج فيها ثقافات مختلفة تتضمن العربية، إلى جانب الثقافة الإسبانية، عادة هذا التنوع عاملا مهما لتأكيد ضرورة الترجمة وقيمتها، وأكدت أنه على المترجم أن يحدد لمن يخلص في ترجمته: للنص الأصلي أم للغة المترجم.
فيما حملت ورقة نواف البيضاني عنوان "ابنا آوى اللذان علما الأمم" تطرق فيها إلى حكاية "كليلة ودمنة"، التي مرت بمراحل في الترجمة والتقريب، وتصرف فيها بعض المترجمين فتغيرت أساسياتها، وقال "عندما نتأمل في كتاب "كليلة ودمنة" سنحتار في صاحب الفضل في انتشاره، لنتساءل هل يعود ذلك إلى المؤلف الذي تفتق ذهنه عن هذه الحكايات المتقنة السبك وهذا الأسلوب التعليمي الماتع الممتع، أم هو "برزويه" الطبيب الفارسي في حكم كسرى الأول، الذي نقله من لسان الهند إلى لسان الفرس، أم ابن المقفع الذي نقله إلى لسان الفصاحة العربية؟"، ملخصا قصته بعبارته "المجد للتراجمة".
وعن التقريب بين الأمم، كان الدكتور محمد البركاتي أكثر تناولا مباشرا لهذا الجانب، فأكد أن الترجمة عامل مهم في ازدهار الثقافة وانتقالها من مكان إلى مكان، وربما معول لهدمها وتذويبها.
وأشار إلى أن التقريب في الترجمة يسهم في البناء والتجسير ويقدم نصوصا تروق لذائقة القراء، لكنه يقوم بتذويب الحضارات بعضها بعضا، فيما يحفز التغريب القارئ لتناول المفاهيم الثقافية الخاصة ليترك في داخله مساحة من الهوية لكل ثقافة لتصنع ألوانها ومذاقها. فيما شدد الدكتور بريان جيمس باير على إمكانية ربط أمتين متباعدتين من خلال الترجمة، بعد الأخذ في الحسبان الفهم الدقيق للثقافة بين اللغة الأصلية والمراد الترجمة إليها.
تحديات قبل الإبداع
"يراد من المترجم الشفهي أحيانا أن يكون ملما بكل المجالات، وكأنه متخصص فيها، بينما المنطق يقول إن العارف بكل شيء لا يعرف شيئا".. هكذا تحدثت هند العيسى المترجمة الفورية حول جلسات الملتقى، التي كانت قد قدمت الجانبين النظري والعملي عن مهارات الترجمة.
فيما لخص الواقع الدكتور إبراهيم البلوي في الجلسة الحوارية "الترجمة الأدبية: من الترجمة إلى الإبداع"، حينما أكد أن كل الجهات الحكومية والخاصة والأفراد تسعى إلى جودة في الترجمة، لكن جودة الترجمة وعملية الترجمة برمتها أساسها تأهيل المترجم، إذا لم نعمل على تأهيل المترجمين فلن نحظى بجودة في الترجمة.
ويرى أن الجامعات مطالبة بالخروج من التقليدية في تعليم الترجمة، أما الدكتور شريف بقنة فأوضح أن النص الأدبي يتطلب دلالة غموض وميزة إبداعية تؤهله إلى نقله للغة أخرى.
وبدوره أشار إيمانويل فارلييه إلى أن كبار المترجمين غير متفرغين، الأمر الذي أدى إلى تراجع القطاع، ومن الواجب على المؤسسات الثقافية تفريغ ومساعدة المترجمين ونقلهم إلى الاحترافية.
قطاع غير منظم
في إحدى جلسات الملتقى، الذي طغى فيه الحضور النسائي، قدمت الدكتورة كاثرين واي كشفا عن المشهد اللغوي في إسبانيا، مؤكدة أن قطاع الترجمة غير منظم في العالم، حيث يفتقد إلى كيان دولي ينظم عمل المترجمين.
في حين شدد الدكتور عبدالرحمن السليمان على أن التشريعات تساعد المترجمين على تطوير المنتج اللغوي، باعتبار الترجمة صناعة تكنولوجية متعددة، مستشهدا ببلجيكا التي وضعت نظاما تنظيميا فعالا منذ ثلاثة أعوام.
مترجم الملوك
شهد ملتقى الترجمة جلسة حوارية مهمة، شهدت إقبالا كبيرا من المترجمين والمتدربين، الذين استمعوا إلى قصة منصور محمد الخريجي "مترجم الملوك" منه شخصيا، فلم تكن طفولته سهلة، بل معذبة، لخص تجربته بأن "العمر كنز"، لا بد أن يستثمر الإنسان كل لحظة في حياته لصنع الأثر.
في نصيحته للمترجمين، قال المترجم القدير "احذر أن تخضع أو تستسلم، يجب أن تصروا على آرائكم وترجمتكم حينما تعرفوا أنها صحيحة، ثق بنفسك أولا كي يثقوا بك، أنت مهنتك مترجم، وما وضعت في هذا المنصب إلا لأنك تستحق، بعد اختبارات وعناء".
وفي سيرته الماتعة، تناول منصور الخريجي نائب رئيس المراسم الملكية سابقا مواقفه مع الترجمة الدبلوماسية، وسرد بشكل عفوي ذكرياته الشخصية مع عدد من الملوك والرؤساء، التي وثق بعضا منها في كتابه وسيرته "ما لم تقله الوظيفة.. صفحات من حياتي".
تحد و10 ورش عمل
أضفى تحدي الترجمة الذي صاحب الملتقى روح المنافسة على المترجمين، الذين شاركوا في مسارات متخصصة في اللغات الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والكورية، وحظي الفائزون في ختام الملتقى بجوائز وتكريم من الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة.
كما شهد ملتقى الترجمة إقامة عشر ورش تدريبية، تناولت العمليات الفنية للترجمة وتقنياتها وقوالبها المتعددة، بمشاركة خبراء ومتخصصين في الترجمة، تناولت تطبيقات الترجمة الإعلامية والمحتوى الإخباري، إدارة مشاريع الترجمة، تطبيقات الترجمة السياسية، الترجمة الشفوية عن بعد، ترجمة المؤتمرات، موضوع "السترجة" كفرع من فروع الترجمة السمعبصرية، أساسيات الترجمة التحريرية، الترجمة القانونية، وورشة أخيرة حول استراتيجيات التحليل النقدي للخطاب متعدد الوسائط للنصوص السمعبصرية.
وكانت الورش ثرية بما قدمته من نصائح ذهبية للمترجمين، منها ما تناولته المترجمة رنا الحنايا عن الترجمة الفورية للمؤتمرات، ونصحت بالابتعاد عن تفسير شيء لم يسمع أو يفهم صوتيا، والتأكد من قدرة المترجم الفوري على سماع المتحدث بوضوح تام، فيما تناولت الدكتورة أبرار مجددي أستاذ الترجمة واللغويات المساعد في جامعة الملك عبدالعزيز قيود السترجة، ومنها عدد الكلمات التي لا تقل عن 30 حرفا ولا تزيد على 36 حرفا في السطر الواحد.
العصر الذهبي
قدم ملتقى الترجمة مجموعة من التوصيات في جلسة ختامية، شارك فيها مجموعة من المترجمين المعروفين والأكاديميين، ومن توصياتهم ضرورة استمرار الملتقى ليكون سنويا، مع إضافة مهارات أخرى إلى قطاع الترجمة، ورفع مستوى الطموح بالنسبة إلى الدارسين للوصول إلى المستوى المطلوب، ودعم الأعمال والمحافل كالمؤتمرات واللقاءات المتخصصة في مجال الترجمة.
وشدد المشاركون على أن المبادرات الموجودة تؤكد أن القطاع قادر على الاستمرار بعد أخذ المعطيات والمداخلات لتطويرها في تصميم الدورات المقبلة، وذلك بتعاون الجهات المعنية.
كما أكدوا أن المملكة تعيش عصرا ذهبيا في المجالات كافة، منها الثقافية والأدبية التي يتفرع منها مجال الترجمة، مشيرين إلى أن مواصلة الهيئة لدعم مجالاتها كافة المتمثلة في الأدب والنشر تنعكس تلقائيا على قطاع الترجمة.