توترات " مكتومة " في البورصات العالمية .. تقلبات الأسواق الضخمة
في الثلاثاء الماضي آخر أيام شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، فتحت البورصات العالمية على تراجع بعد التصريحات، التي أدلى بها ستيفان بانسل، الرئيس التنفيذي لشركة موديرنا لتصنيع اللقاحات، حيث توقع أن تكون اللقاحات المضادة لفيروس كورونا أقل فاعلية في مواجهة السلالة الجديدة من الفيروس المعروفة باسم "أوميكرون".
كانت تلك التصريحات كفيلة بإرباك الأسواق وإثارة مخاوفها، ولكن لساعات محددوة.
ففي ذات اليوم وفي التعاملات الليلية في البورصة الأمريكية أخذت العقود الآجلة للأسهم الأمريكية في الانتعاش والتحسن، وبحلول صباح اليوم التالي فتحت البورصات في جميع البلدان الآسيوية ومنطقة المحيط الهادئ على أوضاع أكثر إيجابية، ونجحت في استعادة بعض من قوتها، التي خسرتها في اليوم السابق.
ردود فعل أسواق الأسهم والتقلب السريع في الأسعار بين الانخفاض والزيادة خلال فترة زمنية قصيرة ومحدودة للغاية، طرح كثيرا من التساؤلات أغلبها يتعلق بمدى هشاشة الوضع الراهن في البورصات العالمية. وهل ما يحدث وضع طبيعي ومنطقي في ظل التحديات الدولية المتعلقة بوباء كورونا، أم أن الأمر يتجاوز قضية الفيروس وعدم قدرة اللقاحات على مواجهة السلالة الجديدة منه، ليمتد إلى جوانب أخرى تتجاوز مسألة التصريحات الصحافية لأكبر مسؤول في شركة موديرنا.
البعض يرى أن تلك التقلبات طبيعية، نظرا إلى أن التصريحات جاءت من مصدر مسؤول يعرف عما يتحدث، ولهذا استجابت الأسواق بسرعة وبطريقة منطقية تتلاءم مع طبيعة التصريح وأهمية مصدره.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" إيان ديفيد، المحلل المالي في بورصة لندن، "الانخفاضات السريعة ثم التحسن اللاحق في مؤشرات البورصات، يعود في جزء منه إلى أن الأسواق لا تزال متأثرة بالتجربة السلبية، التي عاناها الاقتصاد الدولي عند ظهور وباء كورونا، وفترات الإغلاق الطويلة. المستثمرون الآن باتوا شديدي الحساسية لأي أخبار تنم عن غموض في الأوضاع المستقبلية أو تلميحات من كبار المسؤولين بعدم استقرار المستقبل".
ويعتقد إيان ديفيد أن التحسن، الذي حدث لمؤشرات البورصة بشكل سريع يكشف عن إدراك كبار المستثمرين أن تأثيرات السلالة الجديدة من فيروس كورونا سيكون محدودا، وأن الحكومات الرئيسة في العالم وتحديدا في الولايات المتحدة وأوروبا ستبذل قصارى جهدها لتجنب إعادة تجربة الإغلاق مجددا.
لكن بعض المحللين الماليين لا يحملون مسؤولية الاضطراب المؤقت في البورصات للتصريحات، التي أدلى بها المسؤول التنفيذي في شركة موديرنا، وإنما إلى تصريحات جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، التي أشار فيها إلى أن ظهور السلالة الجديدة من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم حالة عدم اليقين بشأن الانتعاش الاقتصادي والتضخم، يضاف لذلك أنه خلال شهادته أمام اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ أعلن باول أن الوقت قد حان للتخلي عن مصطلح "مؤقت" الذي سبق له وأن استخدمه لوصف معدلات التضخم المرتفعة أخيرا، مؤكدا أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يجب أن يفكر في تقليص مشتريات السندات بسرعة أكبر، كخطوة أولى لرفع أسعار الفائدة.
من هذا المنطلق ترى الدكتورة ليزا بريس، أستاذة الاقتصاد الكلي في جامعة ليدز أن تصريحات المسؤول في شركة موديرنا لم تكن أكثر من القشة، التي قسمت ظهر البعير، وأن أسواق الأسهم والبورصات كانت في حالة من التوتر "المكتوم" نتيجة ارتفاع معدلات التضخم المتواصلة عالميا.
وتضيف "التحسن، الذي حدث سريعا في أسعار البورصة يكشف أن الاتجاه العام للمستثمرين لم يحدد موقفه النهائي من التطورات الجارية، وأنهم يسعون لتعظيم أرباحهم قبل إقدام مجلس الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة، في الوقت ذاته، فإن القيود المعلنة لمواجهة السلالة الجديدة من فيروس كورونا ليست متشددة أو مرهقة للمستهلكين، إذ ترتبط في الأساس باستخدام الكمامات".
مع هذا يشير بعضهم إلى أن التقلبات، التي حدثت أخيرا تؤكد أن البورصات الدولية قد تتعرض لها بشكل متتال خلال الفترة المقبلة.
في هذا السياق، يقول المحلل المالي أليكس وايت تيكر أن "مؤشر التقلب CBOE المعروف أيضا بمؤشر VIX أو مقياس الخوف في "وول ستريت" ارتفع إلى أعلى مستوى له منذ شهور، وأنه وفقا لتقديراته علينا أن نواجه عدة أيام من تقلبات السوق الضخمة".
ويؤكد لـ"الاقتصادية"، "إن تأثير تصريحات جيروم باول ربما قد تم تجاوزها حاليا، وكذلك تصريحات المسؤولين في شركة موديرنا، "لكن علينا أن ندرك أن المرحلة المقبلة ستشهد كثيرا من تصريحات المسؤولين في مجال مكافحة وباء كورونا، وسيكون لها تأثير دائم على أسعار الأسهم، خاصة في القطاعات سريعة التأثر بتلك التعليقات مثل شركات الأدوية وقطاع السياحة والسفر".
ويضيف "لكن الأسعار ربما تشهد تقلبات أكثر حدة مستقبلا، إذ تشابكت التطورات الخاصة بالمتحور الجديد من فيروس كورونا مع اتخاذ الفيدرالي الأمريكي تدابير جديدة لضبط معدلات التضخم، سواء بخفض وتقليص المشتريات من السندات الحكومية وأسهم الشركات أو رفع أسعار الفائدة".
لكن بعيدا عن نظرية المؤامرة، فإن بعضا من الخبراء الاقتصاديين والمحللين الماليين، يعتقدون أن ردود الفعل الراهنة من قبل الشركات تجاه الانتشار المتزايد للمتحور "أوميكرون" على المستوى العالمي، والتوجهات الجديدة، التي يرجح أن يكشف عنها ويتبناها المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، تتضمن قدرا من المبالغة في ردود الأفعال، ما يسهم في إشاعة الاضطراب في الأسواق، ويدفع إلى تقلبات في البورصات، سواء في الولايات المتحدة أو على المستوى الدولي.
الخبير الاستثماري هولدن جاني يعتقد أن هناك احتمالا أن تكون الموجة الأخيرة من تقلبات الأسعار محصلة سلوك عناصر في مجالس إدارات الشركات الدولية، التي ترى أن موجة من الاضطراب المحدودة النطاق في البورصات، دون أن تصل إلى حد الانكماش أو الركود، يمكن أن تحقق أرباحا لها من خلال إعادة توزيع موازين القوى في قطاعات محددة، سواء من خلال إضعاف خصومهم أو التخلص منها نهائيا في الأمد المتوسط، خاصة إذا كان لديهم قدر أكبر من السيولة المالية، ما لدى خصومهم، ما يمكنها من تحمل لحظات التراجع الحاد في أسعار الأسهم، على أن يقوموا بتعويض خسائرها مستقبلا وممارسة قدر أكبر من السلوك الاحتكاري.
لكن إيملي تيمو الباحثة في مجال الاقتصاد الدولي، تستبعد تماما هذا الطرح، وترى أن تطور آليات عمل البورصات الدولية لا تسمح بمثل هذا التلاعب.
وتقول لـ"الاقتصادية" إن "التغيرات التي حدثت خلال الفترة الماضية تغيرات طبيعية، وفقا للمعطيات الاقتصادية المتعلقة بالعرض والطلب، ومتأثرة بالأخبار الاقتصادية وتفاعل الأسواق معها، أما الاعتقاد بأن ما يحدث هو نتيجة مؤامرة من الشركات الكبرى، فإنها تحليلات لا تأخذ في الحسبان التطورات الجذرية في أجهزة الرقابة داخل البورصات الدولية، والتكلفة المالية المرتبطة بالعقوبات التي يمكن فرضها على الشركات المتورطة في تلك الأعمال، والتي يمكن أن تخرجها تماما من ممارسة النشاط الاقتصادي".