تركيا .. «الدولرة» تغزو الأسواق
اهتزت تركيا مجددا على وقع انهيار كبير للعملة المحلية الأسبوع الماضي، فيما سمي إعلاميا "الثلاثاء الأسود"، بعد انهيار الليرة أمام العملات الأجنبية، إذ بلغ سعر الصرف 13.5 ليرة للدولار الواحد، وهو سعر الصرف الأسوأ تاريخيا، وذلك نتيجة تخفيض البنك المركزي سعر الفائدة.
وظفت الحكومة ما وصفته بحرب الاستقلال الاقتصادي لتبرير كل القرارات الاقتصادية التي اتخذتها أخيرا، بما في ذلك تغيير وزير المالية ورئيس البنك المركزي ثلاث مرات خلال عام واحد، ودفع البنك المركزي إلى اتخاذ قرارات متناقضة بشأن معدلات الفائدة، مع كل تغيير من التغييرات المذكورة، خفضا ورفعا. تعدى الأمر ذلك، إلى الإصرار على ضرب النظريات الاقتصادية المعروفة بعرض الحائط، بدعم سياسة لخفض الفائدة على الودائع لمواجهة التضخم، ما يعني إسقاط استقلالية البنك المركزي التركي.
يحدث هذا لعملة تعد الأفضل أداء بين الأسواق الناشئة، مطلع 2021، بعد رفع سعر الفائدة من 10.25 في المائة إلى 15 في المائة في نوفمبر 2020. ثم مرة أخرى، في ديسمبر إلى 17 في المائة، فزادت قيمة الليرة بنحو 18 في المائة، ليصل سعر صرف الدولار إلى نحو سبع ليرات، مقابل 8.50 ليرة قبل قرارات رفع سعر الفائدة.
ترى الحكومة أن سعر الصرف المنخفض يؤدي إلى تدفق الاستثمارات، وزيادة العائد من الصادرات والسياحة، وهذا الأمر سليم من الناحية النظرية، متى استقرت معه عوامل أخرى. لكنه بالموازاة مع ذلك، يتجاهل أضرار هذه السياسة من زيادة معدلات التضخم، وإضعاف الطلب المحلي، وزيادة تكلفة الواردات. فانخفاض قيمة الليرة التركية أدى إلى رفع معدل التضخم، ليقترب من سقف 20 في المائة، وزادت الأعباء المعيشية على المواطنين، سواء بالنسبة لأسعار السلع والخدمات وإيجار المنازل. وساعدت على انتشار ظاهرة "الدولرة" داخل المجتمع التركي.
إصرار الحكومة التركية على تبني سياسيات إضعاف الليرة، ينعكس سلبا على الطلب المحلي الذي يضر بدوره بالاقتصاد، رغم رهان الحكومة على زيادة الطلب على السياحة التركية، لتحقيق هدف بلوغ 50 مليون سائح في 2023. هدف يسهل تحقيقه عدديا فقط، أما ماليا، أي تحصيل عائدات 50 مليار دولار، فلا يزال بعيدا، لأن رفع متوسط إنفاق السائح ألف دولار يتطلب استهداف السياحة الغنية، خاصة من دول الخليج، التي انخفضت حصتها في السوق التركية من 18 في المائة في 2018، إلى 5 في المائة حاليا، ليبقى السائح الروسي، منخفض الإنفاق هو المسيطر على السياحة التركية.
وزاد استثمار الحكومة التركية، بشكل مكثف لأعوام طويلة في قطاعات لا تمس حياة المواطن اليومية، مثل العقارات والخدمات، مع إهمال القطاعات الأكثر تأثيرا في حياة المواطن التركي، ومنها القطاع الزراعي الذي يعاني استيراد الأسمدة والوقود، وتراجع العائد مقارنة بالقطاعات الأخرى، الأعباء على المواطنين مع معدل تضخم بلغ 20 في المائة.
يتوقع المراقبون أن يزداد أمر الليرة سوءا العام المقبل، مع زيادة الطلب على الدولار، وانخفاض الطلب على الأسواق الناشئة، مع تطبيق خطة الرئيس الأمريكي جو بادين لتحفيز الاقتصاد الأمريكي، ما يعني أن الليرة التركية ستصبح لاعب غطس في حوض سباحة بلا قاع. يقع هذا في عام، كان يمثل فرصة لصعود الليرة، مع انخفاض المحفزات على الاستثمار في الدولار، البديل الأكثر قوة عالميا.
توقعات تجعل مستقبل الحزب الحاكم في تركيا على كف عفريت، ففزاعة "حرب الاستقلال الاقتصادي" لم تعد ملهمة لأحد، داخليا وخارجيا. واستغلت المعارضة بقوة ذلك، فكلجدار أوغلو رئيس حزب الشعب المعارض، يتصرف بحرية مطلقة. فقد طالب أطر الدولة بعدم رفض أي إملاءات من السياسيين. واستطاع. وللمرة الأولى، في تاريخ الحزب أن يصوت نوابه في البرلمان ضد تجديد السماح للحكومة، بإرسال قوات عسكرية إلى سوريا والعراق.
تحاول المعارضة التركية استغلال تخبط الائتلاف الحاكم، لاستمالة مختلف فئات الشعب التركي إلى جانبها، ولا سيما مع تعاقب استطلاعات رأي دورية، تكشف عن انحدار كبير ومطرد في شعبية حزب العدالة والتنمية. لكن هذا الانحدار لا ينعكس صعودا بالنسبة نفسها في شعبية أحزاب المعارضة، وإن كانت نتائج بعض هذه الاستطلاعات تشير إلى تقدم في نسبة التصويت للتحالف المعارض.
لكن المعطى الأبرز هو اتساع نسبة المتحيرين، الذين لم يمنحوا ثقتهم لا للسلطة ولا للمعارضة. وإن كانت هزة الثلاثاء الماضي، ستدفع بهذه الأصوات العائمة المتضررة بشدة من الوضع الاقتصادي إلى تأييد ودعم المعارضة، ولا سيما أن زعيمها ما انفك يردد أن مفتاح التغيير في تركيا هو العودة إلى النظام البرلماني.
يبدو أن هذه المتغيرات باتت تشكل تهديدا مباشرا بخصوص بقاء حزب العدالة والتنمية مستقبلا في الحكم بتركيا. يعزز هذا القول استحضار نتائج الانتخابات السابقة، في 2018، حيث كان لحزب التنمية والعدالة تأييد 43 في المائة فقط، أما الآن فالتقديرات تذهب إلى أن 60 في المائة من الأتراك فقدوا أملهم على حل المشكلات الاقتصادية في تركيا في العام المقبل.