الأعمال الفنية الرقمية طريقة جديدة لصناعة الثروات .. فرصة استثمارية أم فقاعة؟

الأعمال الفنية الرقمية طريقة جديدة لصناعة الثروات .. فرصة استثمارية أم فقاعة؟
الأعمال الفنية الرقمية طريقة جديدة لصناعة الثروات .. فرصة استثمارية أم فقاعة؟
الأعمال الفنية الرقمية طريقة جديدة لصناعة الثروات .. فرصة استثمارية أم فقاعة؟

منذ بداية العام حتى الآن بلغت مبيعات ما يعرف بـ"الأعمال الفنية القائمة على الرموز غير القابلة للاستبدال" ويشار إليها اختصارا بـNFT ما قيمته 3.5 مليار دولار. ويندرج هذا النوع من الأعمال الفنية ضمن فئة "الأعمال الفنية الرقمية".
ورغم أنه مطروح في الأسواق منذ 2014، إلا أنه لم يكتسب شعبيته المثيرة للجدل إلا في آذار (مارس) الماضي، عندما باعت دار كريستيز للمزادات صورة رقمية للفنان مايك وينكلمان بعنوان " كل يوم: أول 5000 يوم" مقابل 69.3 مليون دولار أمريكي لمبرمج في سنغافورة مولع بالتكنولوجيا.
الصورة المبيعة ليست أكثر من ملصق يتكون من خمسة آلاف صورة صغيرة بقياس "21069 في 21069 بكسل"، في الظروف العادية، ولشخص لا تتجاوز علاقته بعالم الفن سوى معرفته بلوحة الموناليزا، التي يعرفها القاصي والداني، كان سيلقي بهذا الملصق في سلة المهملات إذا وجده معلقا في غرفته، لأنه من وجهة نظره المتواضعة ليس له علاقة بالفن الذي يعرفه على الأقل، علاوة على قدرته على أن يتوقع أن يحقق هذا المبلغ في المزاد.
على أي حال وفي الشهر ذاته باع إيلون ماسك تغريدة له باعتبارها تدخل ضمن "الرموز غير القابلة للاستبدال" بـ1.1 مليون دولار.
السابقون قالوا "الفنون جنون"، وبعض الاقتصاديين يقولون "إن الأمر لا يتجاوز تقليعة عصرية وفقاعة اقتصادية، شاهد التاريخ مثلها كثيرا، وتنتهي غالبا بانفجارها وخسارة أصحابها أموالهم".
أما المضاربون والمستثمرون والمتعاملون مع هذا النوع من "الاستثمار" فإنهم يؤكدون أن الأصول الرقمية وتكنولوجيا البلوك تشين غيرت مستقبل التجارة، وأن NFT على رأس الاستثمارات التي تحقق نموا إيجابيا.
فما هذا الـNFT الذي بات حديث عالم الاستثمار والمستثمرين والطريقة الجديدة لصناعة الثروات؟
لفهم الفكرة ببساطة، دعنا نتصور أنك التقطت صورة لابنتك وهي تؤدي إحدى الحركات الطفولية أو تعبر بملامحها البريئة عن شعورها تجاه شيء ما، ثم نشرت الصورة على أحد المواقع، وبين ليلة وضحاها باتت الصورة أيقونة للطفولة في العالم، يمكن أن يكون هناك آلاف وملايين النسخ من تلك الصورة، لكنك ستظل المالك الأصلي لها رغم آلاف النسخ المتشابهة والمنتشرة على الشبكة العنكبوتية.
ولضمان أنك المالك الأصلي هناك ما يشبه الشهادة الرقمية التي تسجل فيها مجموعة من المعلومات الفريدة وتحفظها في البلوك تشين، وتصبح تلك الشهادة أو NFT دليلا على ملكيتك الأصلية للصورة التي لا ينازعك فيها أحد.
بالطبع يمكنك بيع تلك الشهادة الرقمية عبر البلوك تشين، ولأن البلوك تشين يتوزع عبر آلاف من أجهزة الكمبيوتر المنتشرة حول العالم، فإن هذا يضمن أن المعلومات المسجلة في الشهادة الرقمية صحيحة في التعريف بالمالك الأصلي، وكم من مرة بيعت فيها الصورة، وما السعر الذي بيعت به كل مرة.
السؤال الطبيعي الذي يتأتى إلى ذهن كل إنسان عاقل رشيد، ما الذي يدفع شخصا ما - مهما بلغ ثراؤه - أن ينفق ملايين الدولارات لشراء شيء متاح للجميع، يمكن تحميله بسهولة من الإنترنت ومجانا؟
الإجابة التي تبدو غامضة وربما لن تقنع كثيرين، تتمثل في "أنا أرغب في ذلك"، ولإضفاء بعض المنطق على تلك الرغبة، فإن الأمر قد يتضمن اعتقادا شخصيا بأن هناك شخصا ما في مكان ما في هذا العالم مترامي الأطراف، الذي يضم مليارات البشر وملايين الأثرياء، لديه الرغبة ذاته التي توجد لدي، ليكون "المالك الحصري" لهذا العمل، حتى إن كان منه ملايين النسخ.
وحينما يرغب هذا الشخص الذي لا أعرفه في أن يحقق أمنيته تلك، فسأرحب به، وأبيعه تلك الشهادة الرقمية التي تثبت ملكيتي هذا العمل، وأحقق مكسبا ما، هذا هو المنطق الذي يحكم الـNFT.
أما لماذا تساوي بعض تلك "الأعمال الفنية الرقمية" مئات الآلاف من الدولارات، وأخرى تساوي ملايين الدولارات، آخذا فيالحسبان أن بعضها ليس أكثر من تغريدات لمشاهير مثل جاك دورسي مؤسس "تويتر" الذي باع أول تغريدة بنحو ثلاثة ملايين دولار، رغم أنها متاحة بالمجان لمن يريد، بينما لا تساوي تغريداتنا أي شيء حتى الآن على الأقل، فإن الأمر باختصار يتوقف على الطلب، فالمنافسة بين الراغبين في اقتناء تلك الأعمال الرقمية هي التي تحدد السعر في نهاية المطاف.
الأكثر غرابة في الأمر أن تلك الصورة التي التقطتها لابني أو ابنتي وأثارت إعجاب ملايين، ولأني المالك الوحيد للصورة الأصلية رغم أن منها آلاف النسخ على شبكة الإنترنت، أستطيع أن أبيع شهادة الملكية الرقمية الخاصة بها التي أحتفظ بها في البلوك تشين، فتنتقل ملكيتها مني إلى شخص آخر، مع هذا يظل لي الحق في أن أنسخ منها مئات بل آلافا وملايين.
فالأمر أشبه بأن يقوم ليوناردو دافينشي بمنحك "نسخة" من "الموناليزا" بتوقيعه، نعم إنها ليست الصورة الأصلية، إنها نسخة لكنها في نهاية المطاف موقعة من ليوناردو دافينشي نفسه، وهذا يجعل لها سعرا مختلفا عن النسخ غير الموقعة.
يبدو الأمر لا منطقيا أحيانا، لكن في عالم يتم فيه الترحيب ببيتكوين باعتبارها الإجابة الرقمية للعملة، فإن الـNFT يمثل الإجابة الرقمية لعالم المقتنيات أو ما يعرف بالرمز غير قابل للاستبدال، فما هذا غير القابل للاستبدال؟
تقول لـ"الاقتصادية"، الدكتورة أليسون ريد أستاذة مبادئ علم الاقتصاد في جامعة بولتن، "في علم الاقتصاد الأصل القابل للاستبدال هو شيء فيه وحدات يمكن استبدالها بسهولة مثل النقود، فأنت يمكن أن تقترض من صديقك ورقة مالية بقيمة 50 جنيها استرلينيا، لكن ليس من الضروري أن تقوم بإعادة دفعها له في شكل ورقة مالية بقيمة 50 جنيها استرلينيا، إذ يمكن أن تعيدها في شكل خمس ورقات مالية كل ورقة بقيمة عشرة جنيهات استرلينية، أما الأصول غير القابلة للاستبدال فهذا المنطق لا ينطبق عليها، وذلك لأن لها خصائص فريدة بحيث لا يمكن استبدالها بشيء آخر، فمثلا لوحة الموناليزا أو لوحة ليلة النجوم الشهيرة لفان جوخ لوحات فريدة من نوعها، يمكن أن تستنسخها، لكن ستكون هناك دائما لوحة وحيدة أصلية، ولا يمكن مبادلة تلك اللوحات ببعضها بعضا، إذ لا تحمل القيمة الفنية أو المعنوية نفسها على الأقل".
وتضيف "NFT هي أصول فريدة من نوعها، ولأنها في العالم الرقمي فيمكن شراؤها وبيعها مثل أي نوع من الممتلكات، أما الرموز الرقمية المكونة لها فهي رموز فريدة لا تتكرر، ومن ثم فهي بمنزلة شهادة ملكية لهذا الأصل".
ربما تكون النقطة الجديرة بالاهتمام عند التعامل مع اقتصادات الأعمال الفنية الرقمية، هي البحث في مدى استدامة هذا النوع من الأسواق. المؤشرات الراهنة توحي بأننا في مواجهة شكل جديد من أشكال الاستثمار الذي يتوقع أن يحقق البعض بفضله ثروات طائلة، وسط آمال من المشاركين فيه بأن يبقى ويواصل التوسع والازدهار.
لكن الظاهرة الأبرز حاليا في سوق الأعمال الفنية القائمة على الرموز غير القابلة للاستبدال التي لا نستطيع إنكار أنها تشهد حالة من النمو والازدهار تكمن في الطابع المتقلب للغاية لها. فعلى سبيل المثال شهد آب (أغسطس) وصول قيمة معاملات NFT إلى 1.8 مليار دولار، متجاوزة أعلى مستوى سابق لها، وتحقق في آذار (مارس) 2021، لكن الأسواق تراجعت بنحو 69 في المائة في أيلول (سبتمبر)، هذا التقلب الضخم في الأسعار يرجح أن السوق لا تزال سوق مضاربة حتى الآن.
برادي دين الخبير الفني يرى أن المؤشرات الراهنة تجاه الأفق الاستثماري لهذا النوع من الفنون إيجابية.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن المنصات الفنية على الإنترنت تتجه إلى مزيد من الترويج لهذا النوع مع المبيعات الفنية، فـ14 في المائة من تلك المنصات تقوم ببيع الـNFT على مواقعها في الوقت الحالي، بينما تخطط 38 في المائة للقيام بذلك، كما أن الجديد هذا العام هو وجود معارض فنية مخصصة فقط لهذا النوع من الأعمال الفنية، ويلاحظ أيضا أن مزيدا من المعارض الفنية التقليدية بدأ يعرض هذا النوع من الأعمال الفنية، وقد يعني هذا أن نشهد في المستقبل دمجا بين المعارض الفنية التقليدية والرقمية".
تلك النظرة الإيجابية تجاه مستقبل تلك الأعمال الفنية دفعت بمجلة "الإيكونيميست" ذات السمعة الدولية المرموقة إلى اقتحام هذا المجال، ففي 25 أكتوبر قامت بمزاد علني على غلاف عددها الصادر في 18 سبتمبر الماضي الذي كان موضوعه "أليس في بلاد العجائب"، حيث تشرع أليس في رحلة إلى عالم التمويل القائم على التشفير، حيث تشكل الـNFT جزءا أساسيا من أساس الاقتصاد الرقمي.
لكن انتشار الاستثمار في هذا النوع من الأعمال الفنية يدفع ببعض الخبراء المعنيين بشؤون البيئة إلى وصف الأنظمة الاقتصادية في الدول المتقدمة بالرياء والكيل بمكيالين، فبينما تمارس الضغط على الاقتصادات الناشئة لاتخاذ إجراءات أكثر تشددا للحد من التلوث، تسهم هي عبر تشجيع هذا النوع من الاستثمارات في زيادة حدة التلوث في العالم.
من جهته، يؤكد لـ"الاقتصادية" روبرت كريس الخبير في مجال حماية البيئة أن هذا النوع من الفنون مثله تماما مثل إنتاج العملات المشفرة، يحتاج إلى أجهزة كمبيوتر تستخدم كميات ضخمة من الطاقة، وكلما زاد إنتاج هذا النوع من الأعمال الفنية استخدمت أجهزة كمبيوتر أكبر وأكثر استهلاكا للطاقة، بما يعنيه ذلك من زيادة معدلات التلوث المناخي على المستوى العالمي.
اقتصاديا، يحذر بعض الخبراء من ترك ما يعدنه فقاعة تنمو، بدعوى أنها كلما نمتكان انفجارها أكثر تأثيرا وخطورة. ويرى بعضهم ضرورة سرعة التصدي لها، إذ يشيرون إلى أن كبار المستثمرين في هذا النوع من الأعمال الفنية يشترونها ليس بهدف امتلاكها، إنما يشترونها لإعادة بيعها مرة أخرى، وغالبا فإن المستثمرين في هذا المجال هم أنفسهم المستثمرون في مجال العملات المشفرة، ومن ثم فإنهم في هذه السوق بوصفهم "تجارا"، ولذلك لديهم مصلحة دائمة في المبالغة في قيمة تلك الأعمال، ولتحقيق أكبر مكسب ممكن.
على أي حال في نهاية هذا التقرير قمت بتحميل نسخة من ملصق "كل يوم: أول 5000 يوم" على الخلفية في جهاز الكمبيوتر الخاص بي، ليس لأنني معجب بهذا الملصق، لكن حتى أشعر بأنني ومالكه الذي دفع نحو 70 مليون دولار متساويان، هو بأمواله وأنا بقدرتي على تحميل الأشياء المجانية من على الإنترنت.

الأكثر قراءة