صناعة الطيران العالمية تتغير إلى الأبد .. تعثر سلاسل التوريد ينعش الشحن الجوي
كان 2020 عاما مضطربا وربما غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية بالنسبة لقطاع الشحن العالمي، واستمر هذا الوضع في 2021 بحيث أثر سلبا في حركة البضائع وتخزينها وتدفقها، والسبب في ذلك كله وباء كورونا، وما رافقه من فرض قيود على الحدود بين الدول، ما أدى إلى تعثر واضح في صناعة الشحن العالمية عامة.
مشهد السوق العالمية المضطرب وتعثر سلاسل التوريد لم يتغير حتى الآن، وبدأ الأمر يترك بصمات واضحة على معدلات التضخم في العديد من الاقتصادات الكبرى، وزادت حدة الضغوط التي تتعرض لها الشركات الدولية العاملة في مجال نقل السلع، ما دفعها للعمل على التكيف بشكل سريع مع الأوضاع المتعثرة، والبحث عن حلول تتسم بالمرونة والقدرة على الاستجابة للتقلبات.
وفي الحقيقة فإن انخفاض الطلب على عدد طائرات الركاب التي تحلق في الأجواء، نظرا للقيود والشروط المفروضة على حركة المسافرين، والحاجة الملحة إلى نقل البضائع زاد من الطلب على الشحن الجوي، وبالطبع صاحبت ذلك ارتفاعات كبيرة في أسعار هذه الفئة من سبل الشحن.
تعثر سلاسل التوريد على المستوى الدولي، بسبب اعتمادها المفرط على النقل البحري والبري، زادت من جاذبية استخدام الشحن الجوي لنقل المزيد من البضائع لتجاوز القيود المفروضة في الموانئ، والنقص في الحاويات، والندرة الراهنة في العديد من البلدان خاصة الأوروبية بالنسبة لسائقي الشاحنات.
ونتيجة لذلك شهدت أسواق الشحن الجوي زيادة في تحويل طائرات الركاب التي توقفت عن العمل إلى طائرات شحن.
في هذا السياق، يشير موقع بلومبيرج الإخباري إلى أن التوقعات تبدو إيجابية ومبشرة بالنسبة للشحن الجوي هذا العام، حيث توقعت شركة إفلون هولدنجز ليمتد لتأجير الطائرات أن تصل عائدات الشحن الجوي إلى 150 مليار دولار في 2021، مع تضاعف في حركة المرور على مدار الـ20 عاما المقبلة.
تلك التوقعات عززت من المنافسة المحتدمة أصلا بين أكبر شركتي طيران في العالم "بوينج" الأمريكية و"أيرباص" الأوروبية، وقد أعلنت الأخيرة أنها ستعمل على تطوير نسخة من طائرتها العريضة A350 ستحمل 109 أطنان في خطوة قد تمكنها من التغلب على منافستها بوينج في سوق الشحن الجوي.
وشركة بوينج التي تنتج العديد من طائرات الشحن وتعد أكبر منتج لطائرات الشحن في العالم، تتوقع طلبا يصل إلى 2430 طائرة شحن على مدار 20 عاما، بما في ذلك 930 طائرة مخصصة للشحن فقط، و1500 طائرة سيتم تحويلها من طائرات ركاب إلى طائرات شحن.
مع هذا فإن بعض الخبراء يشككون في حكمة تلك الخطوة على الأمد الطويل.
يقول لـ"الاقتصادية" دي. إس. تيم الخبير الاقتصادي، "تشحن نحو نصف البضائع العالمية من حيث القيمة عن طريق الجو، بشحنها في بطون طائرات الركاب، وخلال الوباء اضطر العديد من شركات الطيران إلى إيقاف طائرات الركاب غير المستخدمة، ما أدى إلى زيادة الطلب على مساحة الشحن على طائرات الشحن المخصصة لذلك، خاصة أن التجارة الإلكترونية كانت شريان الحياة للكثيرين في ذلك الوقت بسبب الإغلاق".
ويضيف "تلك الاتجاهات قد تبدأ في التراجع الشديد مع انحسار الوباء، وبتحقيق المزيد من التوازن بين العرض والطلب، وإذ برهنت التطورات أن أزمة سلاسل التوريد الحالية مؤقتة، فربما يفقد الشحن الجوي جاذبيته، خاصة أن طائرة أيرباص للشحن A350 ستدخل الخدمة بحلول 2025".
ويؤكد أن عملية تصميم الطائرات في صناعة الطيران العالمية بدأت تتغير بشكل جذري لتتجاوب مع طبيعة الشحن الجوي في مرحلة ما بعد كورونا، ربما يرفع تكاليف الشحن الجوي ذاته، فلابد من التوفيق بين احتياجات التجارة الإلكترونية لمواقع مثل أمازون تعتمد في جزء من بريقها على سرعة تسليم السلعة للمستهلك، ومن ثم فإن طبيعة طلبهم لتصميم الطائرة سيتطلب مساحة شحن عظيمة نظرا لأن أغلب السلع التي يتم شحنها خفيفة نسبيا، في المقابل هناك شركات الشحن الثقيلة وتلك الشركات أغلبيتها تميل إلى فكرة الحمولات الضخمة.
لكن ديفيد كير نائب الرئيس التنفيذي لاتحاد شركات الشحن البريطانية، يرى أن نمو الشحن الجوي ما هو إلا تحول دائم في فترة ما بعد الوباء وسيغير صناعة الطيران إلى الأبد.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "اتحاد النقل الجوي الدولي أشار في تقرير حديث له إلى أن صناعة الشحن الجوي حققت العام الماضي 129 مليار دولار، وهو ما يمثل ثلث إجمالي إيرادات شركات الطيران. الآن عمليات الشحن تساوي نحو نصف عائدات شركات الطيران، ولهذا فإن قرارات صناعة الطيران وشركات الطيران وشركات الشحن ستأخذ في الحسبان مستقبلا اعتبارات نسبة الركاب ونسبة الشحن في الطائرة وأيهما أربح لها، حيث اعتدنا في الماضي على حساب التكلفة الإضافية لنقل البضائع ولكن ذلك تغير إلى حساب التكلفة الإضافية لنقل الركاب، بمعنى آخر بات الشحن الجوي للبضائع ينظر إليه في أحيان كثيرة باعتباره هو الأساس في النقل الجوي".
ويعتقد ديفيد كير أن تكلفة شحن البضائع عبر الطرق الجوية ستظل مرتفعة لمدة عام أو أكثر نتيجة الطلب القوي من المستهلكين والعرض الضعيف نسبيا بفعل القدرة المحدودة للشحن البحري والنقل البري.
وبالفعل فإن البيانات الدولية المتاحة تشير إلى أن سعة الشحن الجوي العالمية زادت بنسبة 3 في المائة خلال الفترة الماضية، وأن التوقعات المستقبلية للشحن الجوي على المدى القصير والطويل قوية، والمؤشرات مثل مستويات المخزون ومخرجات التصنيع مواتية خاصة أنه من المتوقع أن يبلغ معدل نمو التجارة العالمية 9.5 في المائة هذا العام، و5.6 في المائة العام المقبل، كما أن الطلب على المنتجات المتخصصة عالية القيمة مثل سلع الرعاية الصحية واللقاحات التي تتطلب درجات حرارة محددة آخذة في الارتفاع، وغالبا ما تشحن تلك السلع عبر النقل الجوي.
النظرة الإيجابية حول أوضاع الشحن الجوي تبرز أكثر في تعليقات برندا ماكول الباحث في اتحاد النقل الجوي الدولي الذي يشير إلى أن الطلب العالمي على البضائع هذا العام سيتجاوز مستويات ما قبل الأزمة بنسبة 8 في المائة، ويتوقع أن ترتفع إيرادات الشحن الجوي إلى 175 مليار دولار، مع توقع نمو العائدات بنسبة 15 في المائة.
من هذا المنطلق، يقول "مقارنة بالنقل البري والبحري، يعد الشحن الجوي جزءا مهما من سلاسل التوريد العالمية وإن كان أصغر، لكن في المستقبل من المتوقع أن تشكل بصمة الشحن الجوي نسبة مئوية أكبر، كما ستزداد أهمية المزيج العام لنقل البضائع، خاص مع صعود التجارة الإلكترونية التي أصبحت اتجاها متناميا لا رجوع فيه، وبتعزيزها من خلال تطوير التقنيات وعادات التسوق الاستهلاكية المتغيرة، فإن متطلبات توفير احتياجات المستهلكين بين عشية وضحاها أو في اليوم التالي أو في غضون يومين، تعزز من مكانة الشحن الجوي في صناعة الشحن عامة".
في المقابل، يراهن بعض أقطاب صناعة الشحن الجوي على تعزيز أعمال هذا القطاع، ويشيرون إلى التغير القادم في هيكل التوزيع الصناعي على المستوى الدولي، فالتجربة السيئة المتمثلة في تعرض الأسواق الدولية لنقص حاد في العديد من السلع نتيجة سياسات الإغلاق المتشددة التي تبنتها الصين مع انتشار الفيروس فيها، أدت إلى عجز العرض العالمي في الكثير من السلع الاستراتيجية خاصة الطبية منها التي تنتجها الصين، وقد أوجد ذلك قناعة لدى الحكومات الغربية بضرورة توسيع رقعة التصنيع العالمي، من خلال قيام الشركات بنقل مصانعها من الصين إلى أماكن أخرى مثل المكسيك والبرازيل ونيجيريا وجنوب إفريقيا وإندونيسيا وغيرها من البلدان، وسيزيد هذا التنوع الصناعي من الحركة الجوية الإقليمية، بحيث يتوقع الخبراء أن يترسخ الشحن الجوي الإقليمي كطريقة شحن ثابتة، ما يعني تنوع سلسلة التوريد عبر سلوك تدريجي ولكن متزايد.
تترافق مع تلك الظاهرة، ظاهرة أخرى تتمثل في صعود الشحن الجوي باعتباره قناة شاملة، حيث تنظر شركات الطيران الآن إلى ما هو أبعد من الخدمة التقليدية القائمة على فكرة من المطار إلى المطار، وترى شركات الطيران فرصة في تقديم خدمة شاملة.
من جهته، يقول أندروا جاك الخبير في مجال الشحن الجوي، "الخدمة الشاملة للشحن الجوي بدأت تتشكل في أوروبا لتحسين التسليم، إذ تعمل شركات الشحن الجوي على دمج خدماتها مع خدمات النقل البري لتقديم خدمة شاملة وسلسة، ففي أوروبا دخلت الشركة السويسرية للشحن الجوي في شراكة مع خدمة البريد السويسري، ومع تطور هذا الاتجاه من المرجح أن تزداد الشراكات بين شركات الطيران وشركات الشحن، وشركات النقل البري، وأهمية هذا الاتجاه أنه يخفف المنافسة على مساحة الشحن المحدودة في الطائرات".
جانب آخر تجب الإشارة إليه والمتعلق بأسعار الشحن المتزايدة والمتقلبة، فمنذ أن ضرب الوباء الاقتصاد العالمي في آذار (مارس) 2020 وأسعار الشحن غير مستقرة، وطالما أن الطلب على مساحة الشحن يتجاوز العرض، ستستمر الأسعار في الارتفاع، وحاليا يقل السفر الدولي بنسبة تقارب 88 في المائة عن مستويات ما قبل الأزمة، وهذا الأمر شديد الأهمية لأن طائرات الركاب تنقل 60 في المائة من جميع الشحنات الجوية.
وأفاد اتحاد النقل الدولي بأن المزيد من طائرات الشحن الجوي تحلق اليوم في الأجواء أكثر مما كانت عليه في أوقات ما قبل الأزمة.
وفي الإجمالي هناك 1100 طائرة شحن جوي عاملة، بما يزيد بنحو 240 طائرة أكثر مما كانت عليه في كانون الثاني (يناير) 2020، ومع ذلك لا تزال الصناعة تعاني نقصا في السعة بنسبة 39 في المائة.
ولتخفيف قيود السعة، يقوم المصنعون ببناء المزيد من طائرات الشحن وتعديل طائرات الركاب، ولا شك أن هذا الإجراء مفيد إلا أن تصنيع الطائرات وتعديلها يستغرق وقتا طويلا يصعب أحيانا أن تتحمله الأسواق.
في منطقة المحيط الهادئ حيث ينتعش الطلب على الشحن الجوي، تقوم شركة بوينج على سبيل المثال ببناء 930 طائرة جديدة، وتخطط لتحويل 1500 طائرة لتلبية الطلب في العقدين المقبلين، ومع هذا لا يزال إنتاج بوينج المخطط له أقل من الطلب، ويعني هذا أن السيطرة على أسعار الشحن الجوي لا تزال بعيدة المنال على المدى المتوسط على الأقل، خاصة مع المشكلات الناجمة عن نقل اللقاحات إلى العديد من البلدان النامية، إضافة إلى أن الانفتاح غير المتكافئ للاقتصادات، فكل هذا من شأنه أن يزيد من تأخير استقرار الأسعار.
باختصار، تشهد صناعة الشحن على المستوى العالمي تحولا واضحا والشحن الجوي في قلب هذا التحول، والعديد من الاتجاهات الناشئة ستعيد تشكيل صناعة الشحن الجوي مقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل ظهور وباء كورونا.
بعض هذه الاتجاهات ستكون في المقدمة وذات تأثير أقوى من اتجاهات أخرى، ولكن أيا كانت تلك الاتجاهات فإن لتأثيرها طابع الديمومة، وستغير شكل الأعمال والنشاط في الشحن الجوي بما يؤدي لتحسين الفاعلية والكفاءة التشغيلية، مع توقعات بأن ينعكس ذلك إيجابيا على المتوسط العام للأسعار، ولكن على الأمد الطويل.