تنامي حركة رأس المال يفاقم أزمة التهرب الضريبي .. خسائر بمليارات الدولارات للحكومات

تنامي حركة رأس المال يفاقم أزمة التهرب الضريبي .. خسائر بمليارات الدولارات للحكومات
التحايل الضريبي يستخدم وسائل قانونية لخفض التزامات دافع الضرائب في بعض الدول.
تنامي حركة رأس المال يفاقم أزمة التهرب الضريبي .. خسائر بمليارات الدولارات للحكومات

إذا كنت في زيارة لألمانيا، ستجد ملصقا في المطارات ومحطات السكك الحديدية والحافلات والمولات يتضمن صورة لمواطن ألماني وقد كتب في أعلاها "مطلوب للعدالة". المطلوب اسمه بول مورا، لكن لا تفزع كثيرا فالرجل الذي تطارده أيدي العدالة ليس إرهابيا أو قاتلا أو سفاحا أو مسلحا خطرا، مع هذا فإن الإنتربول وضعه على نشرته الحمراء، مطالبا جميع دول العالم في المساعدة على تحديد مكانه أو إلقاء القبض عليه وتسليمه للعدالة الألمانية إن أمكن.
بول مورا لم يحاكم بعد أو يدان ولكنه متهم بأنه أحد العقول المدبرة لما بات يعرف بـ"سرقة القرن"، فالرجل الذي عمل لأعوام في القطاع المصرفي الألماني يعد أحد أخطر العقول وراء الاحتيال الضريبي.
غالبا ما يتم التعامل مع التهرب الضريبي أو التحايل الضريبي باستخفاف واستهانة واستهتار من قبل قطاع كبير من الرأي العام، حتى من قبل فئات تعد ضمن المجموعات الأكثر وعيا وثقافة في المجتمع. وفي الحقيقة فإن كثيرين منا يغضون الطرف عن الاحتيال أو التهرب الضريبي الذي ينظر إليه البعض باعتباره شكلا من أشكال "الشطارة" في خداع الحكومة.
مبررات كثر تستخدم بالطبع لتبرير ذلك، فارتفاع معدلات الضريبة، وعدم عدالة النظام الضريبي وغيرها، مبررات يلجأ إليها البعض لتسويغ ما يقوم به من "جرائم" في حق مجتمعه، مستغلا في ذلك ثغرات قانونية - وإن لم تكن أخلاقية - تسهل عليه التهرب والتحايل الضريبي، كما أن تعقيدات القوانين والنظم الضريبية ذاتها تتحمل أيضا جزءا من المشكلة، ومع غياب الصرامة في القوانين العقابية في الكثير من البلدان عند تعاملها مع تلك الجرائم، وانتهاء الأمر في كثير من الأحيان بالمصالحة وبعض الغرامات المالية، فإن التهرب والتحايل الضريبي باتا ظاهرة شديدة الانتشار واسعة النطاق على المستوى الدولي.
أظهرت دراسة حديثة قام بها فريق من الخبراء في جامعة مانهايم بالشراكة مع مجموعة كوركتيف الألمانية غير الربحية أن مخططات التهرب الضريبي كلفت الحكومات حول العالم ما يقدر بـ150 مليار يورو من الإيرادات المهدرة أو الضائعة أو المفقودة، عبر استغلال نقاط الضعف في قوانين الضرائب الوطنية.
مع هذا ورغم ضخامة المبلغ المشار إليه أي 150 مليار يورو، فان بعض الخبراء يشيرون إلى أنه أقل بكثير من الرقم الحقيقي الذي قدر في أواخر 2020 بما لا يقل عن 427 مليار دولار سنويا نتيجة الانتهاكات الضريبية للشركات والأشخاص.
الخبير الضريبي البريطاني إل. ك. أرثر يشرح لـ"الاقتصادية" التهرب الضريبي باعتباره نشاطا غير قانوني يتجنب فيه شخص أو كيان ما عمدا دفع ما عليه من التزام ضريبي حقيقي، ومن ثم فإن المصطلح ينطبق على كل من عدم الدفع غير القانوني وكذلك الدفع الناقص غير القانوني للضرائب.
ولكن إذا تطلب التهرب الضريبي اللجوء إلى طرق غير قانونية لتجنب دفع الضرائب المناسبة، فإن التحايل الضريبي يستخدم وسائل قانونية لخفض التزامات دافع الضرائب.
ويشير آرثر إلى أن التجارة الإلكترونية وتنامي حركة رأس المال على المستوى الدولي تجعل جميع الحكومات في مواجهة مشكلات حقيقية في عملية تحصيل الإيرادات، بحيث أصبح الحد الفاصل بين التهرب الضريبي والتحايل الضريبي غير واضح بشكل متزايد.
ويؤثر التهرب أو التحايل الضريبي في القدرة المالية للحكومات سلبا، إذ يؤدي نقص الموارد إلى إلغاء البرامج الحكومية أو تقليصها أو تمويلها من خلال العجز، كما يعتقد بعض الخبراء الاقتصاديين من أمثال جويل سليمرود في كتابه الشهير "الغش: اقتصادات التهرب الضريبي"، أنه على الرغم من عدم وجود تيارات اقتصادية تدافع بشكل صريح عن التهرب أو التحايل الضريبي، إلا أن أفكار منظري اليمين الاقتصادي المفرطين تصب في توجهاتهم اليمينية الداعية إلى حكومات صغيرة لا تتدخل في النشاط الاقتصادي وميزانيات عامة محدودة للغاية ومعارضتهم الدائمة لتمويل المشاريع العامة من خلال العجز أو القروض، تصب في التطبيق العملي في مصلحة التهرب والاحتيال الضريبي، باعتباره آلية تضعف قدرة الحكومات على التدخل في النشاط الاقتصادي.
على أي حال مع تنامي ظواهر الغش والتحايل والتهرب الضريبي التي تقدر بمليارات الدولارات، في وقت تتزايد فيه حاجة الحكومات إلى مزيد من الأموال لتمويل العجز في الميزانيات، نتيجة العديد من العوامل، ربما كان أبرزها في الوقت الحالي التكاليف الضخمة التي تحملتها نتيجة الضغوط الناجمة عن وباء كورونا وتداعياته الاقتصادية، فإن قضية التحايل والتهرب الضريبي باتت حديث الساعة، خاصة مع توقيع 136 دولة حول العالم على اتفاق ضريبي ينص على فرض نسبة ضريبية لا تقل عن 15 في المائة على أنشطة الشركات متعددة الجنسيات.
إلا أن الدكتورة جودي بيكام أستاذة النظم الضريبية في مدرسة لندن للتجارة ترى أنه رغم الجهود المبذولة لإصلاح النظام الضريبي العالمي في العقد الأخير، إلا أنه لا يزال الكثير من جوانب الخلل تعيق المنظومة الدولية عن التصدي بفاعلية للتهرب والتحايل الضريبي. وتشكك بيكام في جدية الدول الثرية في القيام بعملية إصلاح ضريبي حقيقي، وعلى الرغم من تأييدها للاتفاقية الضريبية الأخيرة التي وقعتها 136 دولة، إلا أنها ترصد بعض جوانب الخلل الداخلي فيها وتتهمها بمواصلة الانحياز للدول الثرية على حساب الدول الفقيرة.
وتقول لـ"الاقتصادية" "عائدات الضرائب الإضافية الناجمة عن ضريبة بنسبة 15 في المائة على أنشطة الشركات متعددة الجنسيات ستفيد ثلثي دول مجموعة السبع الغنية والاتحاد الأوروبي، فيما ستستفيد أفقر البلدان بنسبة تقل عن 3 في المائة".
وأضافت "من 2010 إلى 2019 دفعت شركة أمازون معدل ضرائب فعلي بنسبة 13 في المائة أي أقل من متوسط الضرائب الذي تدفعه الممرضة في المملكة المتحدة، أما أبل فقد قامت بتخزين 250 مليار دولار في حسابات مصرفية خارج الولايات المتحدة، والعام الماضي دفعت 55 شركة من أكبر الشركات في العالم مثل فيديكس صفر ضرائب".
وأشارت إلى أن النظام المالي العالمي مصمم بطريقة تسمح للأفراد والشركات على حد سواء بتحويل ثرواتهم عبر الحدود بحثا عن أدنى معدلات الضرائب، تلك الديناميكية توفر سباقا تنافسيا لخفض الضرائب لجذب الاستثمار الخاص، وتترافق معها بيئية تنظيمية شديدة السرية، غالبا المستفيد الأكبر منها الشركات الدولية متعددة الجنسيات التي تمثل الذراع الاقتصادي للاقتصادات المتقدمة.
وفي الواقع فإن الخبراء يجدون أن عبء إصلاح النظام الضريبي العالمي يقع أولا وأخيرا على البلدان الغنية، فقد كافحت العديد من الاقتصادات الناشئة والنامية ومنذ أعوام لوضع حد لغياب العدالة الضريبية العالمية، التي ترسخها البلدان الغنية عبر ما يعرف بالملاذات الضريبية، وطلبت العديد من الدول الفقيرة أن تكون تلك الملاذات الضريبية على جدول أعمال الأمم المتحدة.
كما تتزايد الدعوات الآن إلى إطلاق هيئة ضريبية عالمية جديدة تحت إشراف الأمم المتحدة، وعلى الرغم من أن هذا الأمل لا يزال بعيد المنال، فإن الخبراء يعتقدون أنه سيكون خطوة حاسمة نحو إنهاء بلاء الملاذات الضريبية ووضع العالم على طريق العدالة الضريبية.
بروكلن دانيش الباحث الاقتصادي في مجال التهرب الضريبي يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "إحدى الحقائق الأساسية في النظام الاقتصادي – المالي العالمي أنه من الصعب جدا تتبع ما يحدث للأموال في اللحظة التي تغادر فيها الاقتصاد المحلي وتنتقل إلى الخارج، وعلى الرغم من أن العقد الماضي شاهد تحقق الكثير من التقدم نتيجة تعاون الحكومات بشأن تبادل المعلومات حول المتهربين من الضرائب، إلا أن القواعد المنظمة للنشاط الاقتصادي العالمي مليئة بالثغرات القانونية".
ويعتبر دانيش أن اقتراح الإدارة الأمريكية زيادة ميزانية مصلحة الضرائب الأمريكية بـ80 مليار دولار، خطوة مهمة للمساعدة على كسر حواجز تبادل المعلومات بين الحكومات، وبما يسهم في توسيع وتحسين الشبكة العالمية المتنامية لاتفاقيات التبادل التي تستخدمها السلطات الضريبية لتعقب الودائع الخارجية.
ومن المستبعد بالطبع أن يتم القضاء التام على التهرب والتحايل الضريبي بين ليلة وضحاها، لكن الواقع أن تلك الظاهرة السلبية باتت مشكلة تحتل مكانة مهمة على جدول الاقتصاد العالمي، ويوحي ذلك بأن قادة النظام الاقتصادي الدولي أصبحوا مدركين لخطورة تلك القضية، وانعكاساتها السلبية ليس فقط على النمو أو زيادة المديونيات الحكومية أو تفاقم عدم المساواة سواء على المستوى المحلي أو العالمي أو سواء تعلق الأمر بالأشخاص أو الشركات.
ولكن خطورة القضية تكمن في أنها تمثل تهديدا حقيقيا لقيم الحرية الاقتصادية ذاتها، التي تتضمن سهولة تنقل رأس المال والعمالة، فالتهرب أو التحايل الضريبي يعزز من الأفكار الشعبوية التي ترى في العولمة والحرية الاقتصادية شرا مستطير.
وتستخدم الفضائح التي يزاح عنها الستار من حين إلى آخر بشأن التهرب والتحايل الضريبي باعتبارها دليلا على فساد الحرية الاقتصادية والعولمة ومدعاة لاتخاذ المزيد من التدابير الاقتصادية المقيدة لحرية تنقل رأس المال، وهو إن حدث فقد يعني نهاية النظام الاقتصادي العالمي بشكله الراهن.

الأكثر قراءة