«بائع الكتب في كابول» .. صراع المعرفة ضد التطرف
عاد نظام طالبان إلى الحكم في أفغانستان، منذ نحو شهرين، فبدأت تكهنات المراقبين بشأن مستقبل البلاد، في ظل حكم الحركة، خاصة أن لهذا الفصيل سابق تجربة في إدارة شؤون الدولة، لمدة خمسة أعوام "1996 - 2001". الاهتمام بقراءة فنجان السياسة والاقتصاد في أفغانستان، أسقط من دائرة الاهتمام أي ذكر لجبهات أخرى "الثقافة، المجتمع..."، على موعد مع التغيير والتحول، لا تقل بدورها أهمية وشأنا.
لم يستوعب كثيرون في العالم مشاهد مواطنين أفغان يتشبثون بطائرة أمريكية، وهي على وشك الإقلاع في مطار كابول. فالمغامرة بالذات حد التعلق بطائرة تحلق في السماء، لا يمكن أن تقدم بشأن تبرير أو تفسير عقلي مقنع. حجة تعجز عن الصمود أمام حقائق كتاب "بائع الكتب في كابول"، حيث تكشف آسني سييرستاد الصحافية النرويجية عوالم المجتمع الأفغاني، بسردها حوادث وقصصا أبطالها مواطنون عاديون من مختلف الطبقات الاجتماعية في أفغانستان.
يجد قارئ الكتاب صعوبة في تحديد جنسه، إذ يبقى ملتبس التصنيف لتداخل عدد من الأجناس الأدبية فيه، فالأحداث تأخذك من السيرة الذاتية نحو اليوميات، ومن الرواية نحو القصة القصيرة.. تكاد 20 فصلا - إن جاز اعتبارها كذلك - التي تشكل الكتاب، أن تكون قصصا منفصلة ومستقلة، لولا علاقة أصحابها بشخصية "سلطان خان"، بائع الكتب في كابول، الذي استضاف المؤلفة بمعية عائلته في بيته، لمدة ثلاثة أشهر، ما منحها فرصة سرد الوقائع والأحداث بشكل يكاد يكون مطابقا للواقع.
"في دكان للكتب حدث لي أن التقيت رجلا أنيقا أشيب اللحية. ولأنه كان قد مضى علي بضعة أسابيع بين الركام وتحت دخان البارود، حيث كانت الأحاديث تتركز حول تكتيكات الحرب والتقدم العسكري، فقد راقني ورفع معنوياتي قيامي أخيرا بتصفح أوراق الكتب، والتحدث مع شخص ما، في شؤون التاريخ والأدب"، هكذا تحدثت الكاتبة عن لقائها الأول بسلطان. وزادت واصفة مهارات الرجل "كان بائعا جيدا، إذ إنني لم أغادر دكان كتبه إثر زيارتي الأولى له إلا وأنا أخرج متأبطة سبعة كتب".
تمكنت الروائية من نقل فصول من حياة سلطان، في مجموعة من المشاهد الدرامية النابضة بالحياة والحيرة. ونجحت في رسم صورة بانورامية عن مشكلات الأفغان، بسرديات تصلح عناوين رئيسة للأعطاب الاجتماعية داخل أفغانستان، فاللجوء والتهريب والجهل والأمية والاضطهاد والحرمان واللا استقرار ودونية المرأة واغتصاب الطفولة.. شكلت مفاصل قصة عائلة أفغانية تعد نموذجا للطبقة الوسطى في أفغانستان، تقبل تفاصيله الانطباق على فئة عريضة داخل البلاد.
تعرض آسني لمسيرة سلطان، رجل شديد الاعتداد بنفسه، استطاع على مدار ثلاثة عقود صعبة ومرهقة، من تعاقب أنظمة شمولية، أن يتحدى الاضطهاد على نحو من البطولة النادرة من أجل توفير الكتب للناس، قصد الخروج من حالة القوقعة التي تلف حياتهم من الصباح إلى المساء. وبينت كيف تزيد سوداوية وقتامة الوضع من شغف وعناد سلطان، وعشقه الأبدي للكتاب، في بلاد تطغى عليها لغة الرصاص والدم.
معركة سلطان تعدت مجرد بيع الكتب لتوفير لقمة العيش، إلى "محاولة إنقاذ آداب بلاده وفنونها، في الوقت الذي تعاقبت فيه سلسلة من المستبدين الذين لم يوفروا جهدا لتدمير هذا الأدب وذاك التراث". وراد الكتبي، غير ما مرة، شعور بأن بلاده تقوم بإذلاله من وقت إلى آخر، فقد "أقدم الشيوعيون على إحراق كتبي، ثم جاء المسلحون بعد ذلك لتخريب المكتبة ونهبها، وأخيرا أكلمت جماعة طالبان إحراق ما تبقى مرة جديدة".
تنقل الكاتبة مشهد حضور البوليس الديني إلى مكتبة سلطان، ذات أصيل من تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث كان اهتمامهم منصبا على الصور فقط، دون النصوص الهرطوقية، بما في ذلك الماثلة على الرفوف أمام أعينهم، فقد كان يشاح النظر عنها في الوقت الحاضر. فالجنود كانوا أميين، كل همهم الكتب التي تحتوي على صور لأشياء حية، سواء أكانت تعود لإنسان أو حيوان، حيث تنزع عن الرفوف ليلقى بها في لهب النار.
كان سلطان رجلا حر التفكير، من المؤيدين لمبدأ "إن كل ذي رأي يجب أن يكون قادرا على إسماع رأيه"، ما أدخله معركة ضد الأنظمة السياسية المتعاقبة، فقد اعتقله الشيوعيون بتهمة السعي لكسب النقود، حسب النموذج الرأسمالي. وحاول "طالبان" تجنيده، باستدعائه مرة إلى مقابلة وزير الثقافة، ولما فشلت مساعيه عمد إلى سجنه. لم يهادن، وهو قيد الاعتقال، نظام "طالبان" الذي قاوم جميع أوجه الحداثة، ولم تكن لديه أي رغبة لا في فهم أفكار التقدم والتطوير الاقتصادي، ولا في التكيف معها. فكان يجيب عن أسئلة ممثلي وزارة الفضيلة، بكل اعتزاز "إن باستطاعتكم أن تحرقوا كتبي، وأن تكدروا حياتي، وحتى أن تقتلوني، لكنكم لن تستطيعوا محو التاريخ الأفغاني".
شكلت قصة الكتبي الخيط الناظم لأحداث الرواية، التي تتخللها المواقف والآراء حيال ما يجري في البلاد، فعلق على نظام ما بعد سقوط "طالبان"، وكأنه يخشى عودة الحركة، بقوله "كانت الحكومة في تذبذب بين التقاليد القديمة، وبين الحداثة، بين أمراء الحرب، وبين مشايخ القبائل المحليين. وفي وسط هذه الفوضى حاول القائد الجديد "حامد كرزاي" أن يمرر قانونا متوازنا. كما حاول أن يشق لحكومته طريقا سياسيا، لكنه لم يكن لا صاحب جيش، ولا صاحب حزب، كل ذلك في دولة يغمرها السلاح والفئات المتخاصمة".
حضرت قضية المرأة الأفغانية، بقوة في أكثر من فصل، فالصحافية أسني سييرستاد، بحكم انتمائها وجنسها، استطاعت أن تتمازج مع كل من الرجال والنساء. إذ لو كانت رجلا، ما كان ليسمح لها أبدا بالعيش بهذه الدرجة من الاقتراب من نساء البيت. فكان الشخص الوحيد القادر - عند تقسيم الموائد بين الرجال والنساء في غرفتين مستقلتين - على الطواف بحرية بين الجماعتين. أتاح لها ذلك فرصة الاختلاء بالنساء والاستماع لهن، بعيدا عن سطوة وسلطة العقلية الذكورية المهيمنة. ونجحت في نقل قصص جرائم الشرف والزواج القسري، وزواج الأطفال.. كما حظيت بفرصة معايشة بعض من معاناة النساء في أفغانستان، بارتدائها لباس "البروكا"، والتحرك في الفضاء العام ووسائل النقل... وغيرها.
يستطيع قارئ "بائع الكتب في كابول" أن يمنطق سريعا ما جرى في مدرج مطار كابول، كما يضع الكتاب بين يديه أجوبة دقيقة ومفصلة، بحكم التجربة والمعايشة، عن أسئلة شائكة، كانت مهملة عند استشراف المراقبين مستقبل أفغانستان بعد عودة حكم طالبان.