صراع البنوك المركزية والعملات المشفرة .. تطويق ومنحنيات أكثر شراسة تقرب ساعة الصفر
سمها كما تشاء.. الحرب المعلنة.. لعبة القط والفأر.. صراع حول المستقبل أو صراع من أجل الهيمنة، لكن في النهاية جميعها تسميات للواقع القائم لعلاقة البنوك المركزية من جانب والعملات المشفرة وأنصارهما من جانب آخر.
الحرب أو الصراع الدائر ليس بجديد، مر عليه أعوام منذ أن بدأت العملات المشرفة تكتسب شعبية متزايدة بين المضاربين والمستثمرين، لتسحب البساط تدريجيا من الهيمنة المطلقة للبنوك المركزية على عالم العملات.
الصراع قد يمتد إلى أعوام طويلة، لكن يبدو أنه يأخذ الآن منحنيات أكثر شراسة وعنفا، فالمشهد الراهن تقف فيه البنوك المركزية الكبرى مثل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا والمصرف المركزي الأوروبي وبنك الشعب الصيني (البنك المركزي) وغيرها من البنوك المركزية في خندق واحد، تشكل بداخله تحالفا دوليا غير معلن لمواجهة العملات المشفرة، على أمل توجيه "طعنة نجلاء" وأخيرة إلى هذا العالم، فإن لم تقض عليه طعنتهم، فإنها على الأقل قد تصيبه بعجز دائم لا تقوم له من بعدها قائمة.
الواقع يشير إلى أن العملات المشفرة ومؤيديها، لا يستطيعون دائما أن يتصدوا ضربات محافظي البنوك المركزية، لكنهم يجيدون المراوغة، ويطلقون التحذيرات من حين لآخر لأنصارهم بالانسحاب السريع في مواجهة هجوم البنوك المركزية أو الاختباء حتى تمر العاصفة، يقع بينهم ضحايا ويتعرضون إلى الخسارة مع كل هجوم يتعرضون له، لكنهم يراهنون على اكتساب مزيد من الشعبية بين المضاربين والساعين للحصول على الربح السريع، بحيث يمثل أنصارهم بمرور الوقت قوة ضغط على البنوك المركزية لتخفيف قوة هجماتها وخفض عدد مراته.
الآن وفي ظل وضع اقتصادي عالمي يزداد تعقيدا وارتباكا، تبدو البنوك المركزية أكثر توترا في مواجهة العملات المشفرة، إلى الحد الذي يدفع بعض الخبراء إلى الاعتقاد بأن الهجوم الأخير ربما بات قريبا، ففي ظل الظرف الاقتصادي الدولي لم يعد في قدرة البنوك المركزية المخاطرة بتعرض القطاع المالي الدولي لهزات لم تكن في الحسبان.
القناعات بأن ساعة الصفر والمواجهة اقتربت، جاءت مع تحذيرات السير جون كونليف نائب محافظ بنك إنجلترا، أحد أبرز الصقور في معسكر خصوم العملات المشفرة، اذ عد أن السيل بلغ الزبى، وأن الأمور في هذه السوق وصلت إلى مستوى لم يعد للبنوك المركزية القدرة على تحمله، وأن العملات المشفرة باتت قنبلة موقوتة تدق الآن، ويمكن أن تنفجر في مواجهة القطاع المالي.
تحذيرات نائب محافظ بنك إنجلترا التي يعدها أنصار العملات المشفرة بأنها دليل على التوتر وفقدان الأعصاب لها ما يبررها من وجهة نظر الخبراء المصرفيين.
من جانبه، يقول لـ"الاقتصادية" راندل جورج الرئيس السابق لقسم الائتمان المالي في مجموعة نيت وست المصرفية والاستشاري المصرفي حاليا، إن "دعوة بنك إنجلترا بضرورة الإسراع لوضع حد لسوق العملات المشفرة، جاء في أعقاب تحذير رئيس هيئة السلوك المالي في المملكة المتحدة، بأن الوضع بات مقلقا للغاية بسبب بروز تحالف بين وسائل التواصل الاجتماعي وعالم التشفير، حيث عد رئيس الهيئة، أن مشاركة كيم كارداشيان أحد أبرز المؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي في الدعاية للعملات المشفرة في وقت سابق من هذا العام أكبر ترويج مالي في التاريخ، وحذر أن تلك الخطوة تمثل تحولا نوعيا سيعزز الطلب العالمي على العملات المشفرة".
التوتر من التلاقي بين مواقع التواصل الاجتماعي وعالم التشفير يأتي من أن القدرة الكبيرة لهذا التحالف في استهداف الفئات الشابة التي لا تمتلك خبرات مالية، وهذا الاتجاه يمكن أن يقوض النظام المالي الغربي، حتى أن إدخال النظام التشريعي مزيدا من القيود التنظيمية على سوق العملات المشفرة، فهذا يعني عمليا إضفاء مزيد من الشرعية عليها وتدريجيا يمكن أن تكون العملات المشفرة المهيمن الفعلي على الواقع الاقتصادي العالمي، حتى وإن لم تعترف الدول والحكومات بذلك".
كما أن النمو المتواصل في الأصول المشفرة الذي بلغ 200 في المائة هذا العام فقط، جعلها تقفز من أقل قليلا من 800 مليار دولار إلى 2.3 تريليون دولار، وسط قبول متزايد من بعض البنوك بها، وتحديد بنك التسويات الدولية، الذي يعد منتدى عالميا للبنوك المركزية كيفية تطبيق خدمات المقاصة والمدفوعات على العملات "المشفرة المستقرة" -عملات مشفرة مرتبطة بالدولار - وتكثيف صناديق التحوط لاستثماراتها في سوق العملات المشفرة، كل هذا يدفع البنوك المركزية إلى القلق على النظام المالي، إذا ما انخفضت قيمة تلك العملات بصورة سريعة.
من الواضح أنه نتيجة لتلك الأسباب ترى البنوك المركزية، أن جزءا من الحل يكمن في دفع المضاربين، خاصة الشباب، بعيدا عن عالم العملات المشفرة، حيث إنه بات من المستحيل السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي والمؤثرين، فإنه من الممكن العمل على التطويق السريع لسوق العملات المشفرة، ودفع المضاربين والمستثمرين نحو العملات "المستقرة" المربوطة بالعملات الورقية مثل الدولار، التي لا تشكل حاليا سوى 5 في المائة فقط من الأصول المشفرة المحتفظ بها.
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية" البروفيسور جراي ويبر العضو في لجنة بازل للرقابة المصرفية، إن "هناك انخراطا متزايدا من قبل البنوك والمؤسسات المالية في عالم العملات المشفرة، ولذلك هناك الآن تفكير عالمي بأنه إذا كانت البنوك ترغب في الدخول إلى هذه السوق والاعتراف بالعملات المشفرة في تعاملاتها، فإنها يجب أن تضع جانبا ما يكفي من رأس المال لتغطية 100 في المائة من الخسائر المحتملة، هذا يمكن أن يحد من دخول المؤسسات المصرفية هذا العالم، فمن المحتمل أن يجعل ذلك من تداول العملات المشفرة والاستثمار فيها من قبل البنوك والمؤسسات المالية أمرا باهظ التكلفة، لأنه إذا استثمر بنك ما مليار جنيه استرليني في العملات المشفرة أو قبل بمليار جنيه استرليني ودائع بالعملات المشفرة فعليه أن يضع مليارا مماثلا كاحتياطي، وهذا يعني عمليا إخراج مليار جنيه استرليني من نطاق التداول والاستثمار، هذا الإجراء يمكن أن يحد من انخراط مزيد من المؤسسات في عالم التشفير، لكنه لا يمنع الأفراد من مواصلة المضاربة".
ومن هذا المنطلق يتحدث أنصار العملات المشفرة عن تحالف دولي من قبل البنوك المركزية للقضاء على عالم التشفير، وفي الواقع فإن كبار المسؤولين في البنوك المركزية في العالم لا ينفون رغبتهم أو نيتهم أو على الأقل أمانيهم في القضاء على سوق العملات المشفرة، ميكانيزمات عمل السوق لا تبدو من وجهة نظرهم طبيعية أو على الأقل تسير وفق المفاهيم التقليدية لعلم الاقتصاد، فقد أعلن موقع Binance لتداول العملات المشفرة أن قيمة عملة Cardano هي رابع أكبر عملة مشفرة زاد بأكثر من 2000 في المائة منذ بداية العام، بحيث وصلت قيمتها السوقية إلى 70 مليار دولار، ونمو بهذا المعدل يجعل جل محافظي البنوك المركزية يعتقدون أن الأمر غير طبيعي ولا يتسق على الأقل مع القواعد الأكاديمية لعلم الاقتصاد.
لكن يبدو أن محافظي البنوك المركزية لا يوجد لديهم استراتيجية موحدة لكيفية التعامل بشكل حاسم مع سوق التشفير، فرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم بأول أوضح في أيلول (سبتمبر) الماضي أنه لا يوجد لديه نيه لحظر العملات المشفرة، لكن هذا لا ينفي أن الضغوط تتزايد عليه وعلى وزارة الخزانة الأمريكية بضرورة اتخاذ مزيد من القيود للحد من قدرة هذه السوق.
في هذا السياق، يؤكد لـ"الاقتصادية" الخبير في مكافحة غسل الأموال جودول براون، أنه لطالما كانت العملات المشفرة جذابة للمجرمين والعصابات الإجرامية نظرا لأنها مركزية ويصعب تتبعها.
ويقول "في أيلول (سبتمبر) الماضي ولأول مرة أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية المسؤولة عن صيانة الأنظمة الحيوية للبنية التحتية المالية للولايات المتحدة، أدرجت في القائمة السوداء شركة Suex الروسية لتداول العملات المشفرة لدورها في غسل المعاملات المالية لممثلي برامج الفدية، والشركة التي مقرها التشيك تقدر الجهات الأمريكية أن 40 في المائة من معاملاتها مرتبطة بجهات غير مشروعة، ومن ثم بات هناك الآن قائمة سوداء أمريكية لشركات تبادل العملات المشفرة، بعد سلسلة الهجمات الإلكترونية التي شلت عديدا من الشركات الأمريكية هذا العام، وقد وصلت مدفوعات الفدية إلى أكثر من 400 مليون دولار عام 2020 أي أكثر من أربعة أضعاف مستواها عام 2019".
من هذا المنطلق يعتقد الخبراء أن القوة الشعبية التي تتمتع بها العملات المشفرة، والتي مثلت المضاربة عليها مصدر دخل لعديد من الفئات الاجتماعية يجعل من الصعب أن تلجأ البنوك المركزية إلى إصدار قرار قاطع يوقف نشاط هذه السوق، أضف لذلك عدم وجود رؤية فعلية لتفاصيل القرار القادر على تعطيل سوق العملات المشفرة مرة واحدة وإلى الأبد، فعلى الرغم من حظر تبادل تلك العملات في عديد من الدول فإن التعامل بها لا يزال قائما في الخفاء، كما يصعب تصور أن يكون هناك قرار واحد يمكن أن يكون في قدرته التعامل مع تباين درجات تطور سوق العملات المشفرة من دولة إلى أخرى.
من هنا ربما تلجأ البنوك المركزية إلى فكرة الـ"تطويق" التدريجي لسوق التشفير عبر مزيد من القيود، إدراكا منهم أنهم يسيرون على حبل مشدود، ووعي منهم بأن الحاجة إلى تعزيز تكنولوجيا المدفوعات اللامركزية الجديدة يجب أن يتم ضمن قواعد كافية لمنع المضاربة الجامحة التي تصيب القطاع المالي الأوسع.
ومن هنا يرى البروفيسور آر. دي أيرك أستاذ النقود والبنوك في جامعة جلاسكو "أن المرحلة الراهنة هي مرحلة العض على الأصابع بين البنوك المركزية وسوق العملات المشفرة، البنوك المركزية ترغب في تسلمه التام، لكن يوما بعد آخر يبدو ذلك صعبا أو مستحيلا، ومن ثم تتبنى خيارا آخر قائم على الاحتواء عبر التطويق والقيود، أنصار العملات المشفرة لا يريدون ذلك، وفي الأغلب سينتهي الصراع بحل وسط، خاصة أن كل محافظ بنك مركزي يفكر أيضا أن سحق الابتكار في عالم التمويل اللامركزي الذي يتسم بالحركة السريعة، قد يؤدي إلى إبطاء كفاءة العمليات في بلده، ومن ثم تركها وراء الدول التي ترحب بسوق العملات المشفرة، الذي يتوقع أن تبلغ قيمته خمسة تريليونات دولار عام 2030، فلا أحد يتحمل أن يستبعد من سوق بهذا الحجم".