تحول منهج سياسة النمو «2 من 2»

تعمل الصناعات التحويلية ذات القدرة التنافسية العالمية في الاقتصادات النامية بصورة متزايدة بمنزلة جيوب، شأنها في ذلك شأن الصناعات الاستخراجية ذات الكثافة الرأسمالية العالية والمعدة للتصدير. إذ قد تحفز الصادرات وإيرادات أعلى في شريحة ضيقة من الاقتصاد، لكنها تتجاهل معظم العمال، خاصة الأقل تعليما منهم. إن نموذج النمو هذا لا يرقى إلى أسس المساواة أو الحد من الفقر، بل أخفق أيضا في تعزيز قدر كبير من النمو، لأن الأنشطة ذات الإنتاجية العالية لا يمكن أن تشمل حصة متزايدة من الاقتصاد. ومثلما نادرا ما تنمو الاقتصادات الغنية بالموارد لفترة طويلة "خارج نطاق فترات ازدهار التجارة"، فإن نموذج التصنيع لم يعد قادرا على تحقيق نمو اقتصادي سريع ومستدام.
كيف ينبغي إذا أن يبدو نموذج النمو اليوم؟ كما هو الحال دائما، تبقى الاستثمارات في رأس المال البشري، والبنية التحتية، ومؤسسات بمستوى أفضل، ضرورية لتحقيق مكاسب اقتصادية طويلة الأجل. وهذه هي أسس التقارب الاقتصادي مع الدول الغنية. ولكن استراتيجية النمو الحقيقية يجب أن تعزز إنتاجية القوى العاملة الحالية، وليس القوة العاملة التي قد تظهر في المستقبل بفضل هذه الاستثمارات.
وتحتفظ البلدان النامية بإمكانات كبيرة لزيادة الإنتاجية الزراعية والتنويع من المحاصيل التقليدية إلى المحاصيل النقدية أو الموجهة للتصدير. ولكن حتى مع الزراعة الأكثر إنتاجية ــ بل وكنتيجة لها ــ سيستمر العمال الشباب في مغادرة الريف والتوجه إلى المناطق الحضرية. ولن يحصلوا على وظائف في المصانع، بل في المشاريع الصغرى غير الرسمية المتخصصة في مجالات الخدمات منخفضة الإنتاجية، مع توقعات توسع ضعيفة.
لذلك، سيتعين على سياسات الجيل القادم للنمو استهداف هذه الخدمات وإيجاد طرق لزيادة إنتاجيتها. والحقيقة هي أنه بالكاد هناك القليل من الشركات غير الرسمية التي ستنمو لتصبح "شركات وطنية كبرى". ولكن من خلال تقديم مجموعة من الخدمات العامة ــ بما في ذلك تقديم المساعدة في مجال التكنولوجيا، ووضع خطط عمل، وسن القوانين، وتوفير التدريب لاكتساب مهارات محددة ــ يمكن للحكومات إطلاق العنان لتنفيذ مزيد من المشاريع بينها. ويمكن أن يكون توفير مثل هذه الخدمات مشروطا بمراقبة الحكومة وتحقيق أهداف التوظيف المرنة. وهذا من شأنه أن يمكن من الاختيار الذاتي الإيجابي، مع ترشيح الشركات الصغرى التي تتمتع بقدرات أكبر فقط للحصول على المساعدة الحكومية.
وعادة ما تستهدف السياسات الصناعية في شرق آسيا الشركات المصنعة الأكبر والأكثر إنتاجية، التي من المرجح أن تصبح مصدرة. وبدل ذلك، يجب أن تركز "السياسات الصناعية" المستقبلية في الأغلب على شركات الخدمات الصغرى، التي لا يحتمل أن يكون معظمها شركات مصدرة. ويمكن لهذا الجيل الجديد من السياسات الصناعية التي تستهدف الشرائح ذات الإنتاجية المنخفضة أن يعزز سبل عيش الفقراء في المدن، ويعزز الإنتاجية في قطاعات الاقتصاد التي تستوعب العمالة.
إن أحد الآثار المترتبة على ذلك هو أن السياسة الاجتماعية وسياسة النمو ستتداخلان بصورة متزايدة. وأفضل سياسة اجتماعية ــ تمكين الحد من الفقر بصورة مستدامة وتعزيز الأمن الاقتصادي ــ هي إيجاد وظائف أكثر إنتاجية وأفضل للعمال ممن ذوي المهارات المتدنية. وبعبارة أخرى، يجب أن تركز السياسة الاجتماعية على الشركات بقدر تركيزها على الأسر. ويشير السياق العالمي والتكنولوجي الجديد إلى أن تحقيق النمو الاقتصادي رهين الآن بزيادة الإنتاجية في الشركات غير الرسمية الصغرى، التي توظف أغلبية الفقراء والطبقات المتوسطة الدنيا. وقد تصبح سياسة التنمية موحدة في النهاية.
خاص بـ «الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2021.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي