إمدادات مضطربة وصراع صامت بين منتجي البن .. هل انتهى عصر القهوة الرخيصة؟

إمدادات مضطربة وصراع صامت بين منتجي البن .. هل انتهى عصر القهوة الرخيصة؟
إمدادات مضطربة وصراع صامت بين منتجي البن .. هل انتهى عصر القهوة الرخيصة؟
لم تفلح شركات إنتاج القهوة في التعامل مع تراجع إنتاج البن بالأساليب التقليدية ما تسبب في ارتفاع الاسعار.

في الأول من أكتوبر من كل عام يحتفل عشاق القهوة في العالم باليوم العالمي للقهوة. الفكرة كانت من بنات أفكار منظمة البن الدولية، وأطلقتها في عام 2015، بهدف زيادة الوعي بالمنتج والتحديات التي تواجه المنتجين، فالأسعار المنخفضة لحبوب البن في ذلك الحين كانت التحدي الأبرز الذي يواجه المزارعين، الذين كانوا بالكاد يغطون تكاليفهم، فضلا عن رفع مستوى معيشتهم.
لكن الأول من أكتوبر هذا العام جاء مختلفا هذه المرة، فخلال الـ12 شهرا الماضية ارتفع سعر ما يعرف بمؤشر"C" في إشارة للحرف الأول من كلمة قهوة باللغة اللاتينية "Coffea" الذي يشير إلى السعر المعياري للقهوة العربية عالية الجودة في بورصة نيويورك الدولية للسلع.
وارتفعت أسعار القهوة إلى مستويات قياسية، ويشير تقرير منظمة البن العالمي إلى أن الأسعار وصلت إلى مستويات جديدة غير مسبوقة في أيلول (سبتمبر) الماضي، حيث بلغ المتوسط الشهري 170.02 سنت أمريكي لكل رطل بزيادة قدرها 6.2 في المائة مقارنة بأغسطس الماضي عندما كانت الأسعار 160.14 سنت أمريكي لكل رطل.
ولأن جميع العقود الخاصة بمختلف أنواع القهوة تقارن بمؤشر "C" فإن جميع أصنافها ارتفعت دون استثناء، وبعضها زاد خلال عام بنسبة 80 في المائة، حتى الأنواع الأقل استصاغة التي كانت دائما أرخص سعرا مثل روبوستا ارتفعت بنسبة 30 في المائة، وإلى الآن فإن أغلب التقديرات تشير إلى احتمال أن تواصل الأسعار الارتفاع في الأشهر المقبلة.
وعند إعداد هذا التقرير بلغ سعر الرطل في بورصة نيويورك 2.01 دولار أمريكي، وسط توقعات بأن تتحرك السوق في اتجاه الزيادة في الأعوام المقبلة، وأن يصل سعر الرطل الواحد إلى ثلاثة أو أربعة دولارات ( الرطل 454 جراما).
وتعليقا على ذلك، أرجع موريس جونسون المحلل المالي في بورصة لندن، ارتفاع أسعار القهوة إلى سلسلة من الأحداث البيئية في البرازيل، التي تعد إلى حد كبير المنتج الرائد للبن في العالم.
وقال لـ"الاقتصادية" إن البرازيل تنتج وحدها نحو 35 في المائة من المحصول العالمي للقهوة، وحجم الإنتاج يتقلب فيها من فترة إلى الأخرى، لكن هذا لم يكن يؤثر في الأسعار بشكل كبير، لأن المنتجين يخففون من الضغط الناجم عن تقلبات عملية الإنتاج عبر إدارة المخزون، إضافة إلى أسعار التحوط باستخدام سوق للعقود الآجلة للبن.
وأضاف: "التغيرات البيئية التي شهدتها مزارع البن في البرازيل، خلال الفترة الماضية كانت غير مسبوقة، فموجة من الجفاف الشديد، تلتها موجة من الصقيع العنيف ما أدى إلى الإضرار بالمحصول بصورة غير معتادة، وتتوقع السلطات البرازيلية أقل محصول أرابيكا منذ 12 عاما، وهذا الانخفاض الشديد لم تفلح شركات إنتاج القهوة في التعامل معه بالأساليب التقليدية، ما تسبب في ارتفاع الأسعار".
لكن تلك الأضرار التي أصابت مزارع البن في البرازيل، التي يقدر البعض أنها أسفرت عن إصابة ثلثي الأشجار، لن يقف تأثيرها عند رفع الأسعار في موسم واحد، فأشجار البن تحتاج إلى ما يقرب من خمسة أعوام لتنضج، ومن ثم سيكون هناك حاجة إلى عدة مواسم قبل أن يتم التغلب على نتائج الأضرار البيئية التي أصابت مزارع البن في البرازيل، وهذا يعني أن الإمدادات العالمية من البن ستنخفض لعدة أعوام، لتدفع الأسعار في اتجاهات صعودية حادة.
وإذا كان إنتاج البرازيل من البن قد تضرر نتيجة عوامل طبيعية، فإن فيتنام أحد المنتجين الرئيسين لحبوب روبوستا، وهي نوع من القهوة ذات المذاق المر وتستخدم غالبا في خلطات القهوة سريعة التحضير، واجهت ظروفا غير معتادة نتيجة الارتفاع غير المتوقع في أعداد المصابين بفيروس كورونا في فيتنام، وتبني الدولة تدابير صارمة للإغلاق خاصة في مدينة هو تشي مينه مركز التصدير الرئيسي الذي يتعامل مع معظم عمليات الشحن العالمية عبر شبكة دولية تمتد من الصين إلى أوروبا.
وأسفرت تدابير الإغلاق التي تبنتها فيتنام عن نقص كبير في القهوة على مستوى العالم، يضاف إلى ذلك المشكلات اللوجستية التي تظهر خلال نقل الحبوب إلى موانئ الشحن، بسبب النقص الحاد في حاويات الشحن وارتفاع التكاليف.
لكن عددا آخر من المحللين على الرغم من عدم إنكارهم تأثير الأوضاع البيئية في البرازيل في أسعار البن العالمية، فإنهم يشيرون إلى أن الارتفاع الراهن في الأسعار يعكس تغيرات جذرية وأكثر تعقيدا في هيكل السوق العالمية وأنماط الاستهلاك، بما ينبئ بأن أسواق العرض والطلب تتغير بطريقة ذات طبيعة دائمة.
بدوره، أشار الدكتور جوف جيرمي أستاذ التجارة الدولية في جامعة ليدز إلى أن القيمة الإجمالية لسوق البن العالمية بلغت العام الماضي ما يزيد قليلا عن 102 مليار دولار، وأن هذه السوق يتوقع أن تنمو بقوة في الأعوام المقبلة.
وقال لـ"الاقتصادية" إن الأسواق الرئيسة لاستهلاك القهوة تقع في أوروبا والولايات المتحدة، أما في آسيا فهناك ثقافة تقليدية للشاي، لكن القهوة حققت اختراقات ملحوظة في تلك الأسواق، وذلك خلال فترة تفشي وباء كورونا وما رافقها من تدابير التباعد الاجتماعي والإغلاق، تركت بصمات سلبية كبيرة على المقاهي والمطاعم وغيرها من منافذ البيع التقليدية، لكن هذا تم تعويضه عبر التسوق عبر الإنترنت للاستهلاك المنزلي، ومن ثم بات على الشركات المنتجة وتجارة التجزئة التكيف مع الواقع الاستهلاكي الجديد، الذي يتوقع أن يزيد من استهلاك القهوة حول العالم.
واستدرك قائلا "الأشكال المريحة لاستهلاك القهوة، مثل كبسولات القهوة سريعة التحضير باتت شائعة بين الجماهير خاصة الفئات الشابة في الأسواق الرئيسة، وهناك دراسة حديثة للرابطة الوطنية للقهوة في الولايات المتحدة تشير إلى أن أكثر من 70 في المائة من المستهلكين يفضل الآن تحضير القهوة في المنزل".
وما يمكن استخلاصه أن السوق باتت الآن مدفوعة بمجموعة من العوامل، بعضها يدفع في اتجاه زيادة الطلب عبر قبول المستهلكين للأنظمة الحديثة لتحضير القهوة، ويتعزز هذا الاتجاه بالابتكار المستمر من قبل اللاعبين الكبار في السوق، ويرتبط هذا النمط الاستهلاكي الجديد بمفاهيم اجتماعية تدل على رقي وارتفاع المستوى المعيشي والاجتماعي لدى مستهلكي كبسولات القهوة سريعة التحضير خاصة عند المستهلكين الشباب.
إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فعلى مدى الأعوام القليلة الماضية، لوحظ أن المستهلكين أصبحوا أكثر وعيا فيما يتعلق بتصنيع المنتج الذي يشترونه، ومن أين تأتي مشترياتهم، وإذا كان هذا ينطبق بصفة عامة على سلاسل توريد الأغذية والمشروبات، فإن القهوة تدخل أيضا ضمن هذا الإطار، حيث يبحث المستهلكون عن منتجات القهوة المعتمدة للتأكد من مصداقية مشترياتهم.
لكن ارتفاع أسعار البن في الأعوام المقبلة قد يكشف من وجهة نظر سلفيان تشارلز أستاذ مادة السياسات الغذائية في جامعة جلاسكو عن صراع صامت يدور منذ أعوام بين منتجي القهوة أنفسهم، الذين اعتادوا دائما على إلقاء مسؤوليته على المستهلكين، وكان السبب الحقيقي من وجهة نظر منظمة البن الدولية إلى إعلان الأول من أكتوبر يوم القهوة العالمي.
من ناحيته، وصف لـ"الاقتصادية" سلفيان تشارلز المشهد الراهن في سوق القهوة العالمية بالقول "لدينا وسطاء يكافحون لتأمين مخزون كافي من البن ، وشركات إنتاج قهوة تبحث عن سبل لتمرير ارتفاع الأسعار إلى العملاء، ومستهلكين يواجهون احتمال دفع أسعار أعلى لما يحتسونه من قهوة، في هذا المثلث قد يكون المنتجون هم الفائز الأكبر، ولكن السؤال هو أي منتجين؟".
ويواصل قائلا "من المؤكد أن الشركات الزراعية الكبيرة في البرازيل ستنجو من كارثة الجفاف والصقيع التي ضربت مزارع البن، وربما أيضا المزارع متوسطة الحجم ذات رأس المال الجيد، ولكن ماذا عن أصحاب الحيازات الصغيرة ومزارعي الكفاف الذين يمثلون نحو 95 في المائة من مزارعي البن.
وأضاف "لأعوام ادعت منظمة البن الدولية أن هؤلاء المزارعين ضحايا السوق العالمية، وضحايا عدم رغبة المستهلكين في دفع ثمن أعلى لكل كوب قهوة يستهلكونه، الآن أسعار البن سترتفع، وسيدفع المستهلك ثمنا أعلى لقهوته، فهل ستكون القوى المسيطرة على سوق القهوة العالمية قادرة على تحويل تلك الزيادة السعرية لمصلحة صغار المزارعين لرفع مستوى معيشتهم، أم أنها ستصب في نهاية المطاف في مصلحة الشركات الكبرى فقط".
قد يصعب معرفة الإجابة عن هذا التساؤل في الوقت الحالي، لكن الإجابة هي التي ستحدد المذاق الحقيقي للاحتفال بيوم القهوة العالمي.

الأكثر قراءة