نقص السائقين أول تداعيات «بريكست» .. بريطانيا في مرمى «دومينو» أزمات متعددة

نقص السائقين أول تداعيات «بريكست» .. بريطانيا في مرمى «دومينو» أزمات متعددة
لافتة تعلم العملاء بنفاد الوقود في محطة بنزين في نورثويتش ببريطانيا. "رويترز"
نقص السائقين أول تداعيات «بريكست» .. بريطانيا في مرمى «دومينو» أزمات متعددة
سائقة تملأ سيارتها بالوقود في محطة بنزين في لندن وسط أزمة طالت آلاف المحطات."أ ب"

هل بريطانيا في حاجة إلى وقفة حقيقية مع الذات لتعرف إلى أين انتهى بها المطاف حاليا وإلى أين تتجه في المستقبل؟ هل تمتلك القوى الاقتصادية القادرة على مواجهة ذاتها بأن قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي كان قرارا مكلفا للغاية؟ أم أن الأمر يقف عند اتهام الحكومة بعدم الكفاءة وافتقاد القدرة على التعامل مع تحديات، كان الجميع يعلم بها آتية لا محال، خاصة بعد أن حذرت جمعية النقل البري في المملكة المتحدة في حزيران (يونيو) الماضي من تداعيات نقص 65 ألف سائق مدرب، وتأثير ذلك في سرعة وتكلفة عمليات تسليم السلع والبضائع في جميع أنحاء المملكة المتحدة.
المعطيات الراهنة، تشير إلى أن وزارة الدفاع البريطانية يمكنها أن تنشر نحو 75 سائقا عسكريا، ويمكن إضافة 75 آخرين إذا لزم الأمر للمساعدة في تخفيف مشكلات إمداد الوقود، بعد أيام من الطوابير الممتدة لكيلو مترات، وإغلاق العشرات، بل المئات من محطات الوقود. وفي الواقع، فإن العشرات من عناصر القوات المسلحة البريطانية تم نشرهم بالفعل في اسكتلندا، ولكن للعمل كسائقين لسيارات الإسعاف العاملة في القطاع الصحي، وذلك لعدم قدرة القطاع الطبي الحكومي في اسكتلندا على التعامل مع الأعداد المتزايدة من المصابين بفيروس كوفيد - 19، وعدم توافر سائقين للعمل على سيارات الإسعاف المخصصة لنقل المرضى، لكن تلك المشكلة تبدو محدودة، مقارنة بأزمة الوقود الراهنة.
استعداد أفراد القوات المسلحة للتدخل للحيلولة دون مزيد من تدهور الوضع، لم يكن المعطى السلبي الوحيد الذي كشف عن عجز الجهاز المدني على التعامل مع الأزمة بشكل سريع، وإنما شهدت الأسواق ارتفاعا في أسعار البنزين الخالي من الرصاص، ليبلغ أعلى مستوى له منذ ثمانية أعوام، كما استغل عديد من محال التجزئة الأزمة، وزاد من أسعار السلع والخدمات، إضافة إلى بروز أمراض اجتماعية ذات طابع اقتصادي تترافق غالبا مع مثل تلك الأوضاع المزرية أبرزها ظهور سوق سوداء للتجارة في الوقود.
لكن كيف بدأ نقص الوقود في المملكة المتحدة؟ ولماذا تعاني المملكة المتحدة أزمة وقود؟ .. بدأت الحكاية قبل نحو أسبوع عندما حذرت شركة بريتيش بتروليوم من أنها ستضطر إلى إغلاق "حفنة" من محطات الوقود مؤقتا، وقدرت تلك "الحفنة" بـ 1200 محطة وقود، كما قيدت إمدادات الوقود في محطات أخرى، لكن الشركة أوضحت أن السبب لا يعود لنقص الوقود لديها، ولكن بسبب النقص في سائقي شاحنات الوقود.
وفي نهاية اليوم كان عديد من الوزراء الحكوميين يقومون بجولة على القنوات التلفزيونية بدعوى إيضاح الموقف، ولطمأنة الرأي العام أكدوا أنه لا يوجد نقص في الوقود، وأن الإغلاق لم يطل إلا خمس -نعم خمس- محطات وقود فقط، ولكن في عصر مواقع تهيمن فيه مواقع التواصل الاجتماعي في صناعة الرأي العام، فإن تلك التطمينات والتصريحات لم يكن لها تأثير يذكر.
في اليوم التالي، أعلنت جمعية تجارة التجزئة للبنزين وتمثل نحو 5500 من محطات تعبئة الوقود في المملكة المتحدة البالغ عددها 8000 محطة، أن ما يصل إلى ثلثي منافذ بيع الوقود قد نفد الوقود لديها والبقية "جافة جزئيا وستنفد قريبا"
بالطبع لم تكن حدة الأزمة أو المخاوف الناجمة عنها موزعة بالتساوي إذا جاز التعبير على كامل المملكة المتحدة، فالمناطق الحضرية كانت أكثر تضررا، كما أن أيرلندا الشمالية لم تتأثر بالأزمة.
وليم فورست، نائب رئيس قسم المتابعة في جمعية تجارة التجزئة للبنزين يعلق لـ"لاقتصادية" قائلا: "لا يوجد لدينا مشكلة في توافر الوقود، فالوقود متوافر في مراكز التخزين في المملكة المتحدة، ولكن لا يوجد لدينا عدد كاف من سائقي الشاحنات الثقيلة في المملكة المتحدة".
وأضاف: "هناك نقص يقدر بنحو 100 ألف سائق شاحنة حاليا، وبذلك فالأزمة يحتمل ألا تقف عند الوقود، ويرجح أن تمتد إلى قطاعات أخرى سريعا بسبب ارتباك سلاسل التوريد حاليا".
وعلى غرار نظرية الدومينو، أدى فعليا نقص أعداد سائقي الشاحنات، إلى ارتباك وتضعضع سلاسل التوريد في عديد من القطاعات الأخرى أبرزها القطاع الغذائي، إذ اضطرت بعض المطاعم الشهيرة إلى إغلاق العشرات من فروعها لعدم توافر المواد الغذائية المطلوبة، ودفع هذا الوضع بـ"هيئة صناعة المواد الغذائية" بأن تبعث برسالة تحذيرية عاجلة ورسمية إلى رئيس الوزراء بوريس جونسون.
وأكدت في رسالتها على أنها تخلي مسؤوليتها، فيما يتعلق بالنقص المتوقع في المواد الغذائية خلال فترة الأعياد، مع توقعها أن يصاب المواطنون بحالة من الذعر والفزع ربما تتجاوز ما أصيبوا به خلال أيام من نقص الوقود، مشددين على أنه إذا ما حلت فترة الأعياد دون أن تتوافر المواد الغذائية الضرورية لتلبية احتياجات المستهلكين، فإن الأوضاع ستكون مرتبكة ومحتقنة.
وحملت "هيئة صناعة المواد الغذائية" الحكومة مسؤولية نقص الأيدي العاملة وانخفاض أعداد سائقي الشاحنات، وعدم توافر الكميات اللازمة من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يعد ضروريا في صناعة المشروبات الغازية، وعديد من المواد الغذائية التي يتم تجميدها.
وتضافر مع ذلك الوضع إبلاغ كبار المسؤولين الحكوميين رئيس الوزراء البريطاني أن نقص ثاني أكسيد الكربون قد يدفعهم إلى إغلاق محطات الطاقة النووية المبردة بالغاز لضرورية غاز ثاني أكسيد لكربون في عملية التبريد، وهو ما دفع بالحكومة إلى الإسراع بالتدخل لإنقاذ شركة أمريكية والحيلولة دون توقفها عن العمل، لأنها تمد بريطانيا بنحو 60 في المائة من حاجتها من ثاني أكسيد الكربون، وإذا كان نقص سائقي الشاحنات في الوقت الراهن ظاهرة ملحوظة في عديد من الاقتصادات الأوروبية، فإن بريطانيا كانت أكثرهم تضررا لعديد من الأسباب. وتتفق الدكتورة فيفيان ريد كليف، أستاذة الاقتصاد الأوروبي في جامعة ليدز ترينتي مع ما صرح به أولاف شولتز زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي احتل المركز الأول في الانتخابات الألمانية، في أن بريطانيا بخروجها من الاتحاد الأوروبي وما ترتب على ذلك من إنهاء حرية التنقل بين المملكة والاتحاد، سبب أزمة الوقود الحالية في المملكة المتحدة.
وتقول لـ"الاقتصادية" "بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي عاد عديد من السائقين الأوروبيين إلى بلدانهم الأصلية، أو قرروا العمل في بلد أوروبي آخر، لأن العمل في المملكة المتحدة ينطوي على بيروقراطية مفرطة في المناطق الحدودية لها تأثيرات سلبية في دخولهم، خاصة مع التغييرات الضريبية وقوانين الهجرة الجديدة المشددة، ما دفع عديدا من العمال الأجانب في البحث عن وجهات عمل أخرى أقل صرامة، وليس فقط سائقي الشاحنات".
وتضيف: "كما أن جائحة كورونا زادت من تعقيدات الوضع، فالمملكة المتحدة كانت أكثر أو من أكثر البلدان الأوروبية تضررا، ومع قيود السفر والبقاء في المنزل خلال العام ونصف العام الماضيين، فإن عديدا من الأشخاص ومن بينهم سائقو الشاحنات فضلوا العودة لأوطانهم، ولم تعد الأغلبية العظمى منهم لبريطانيا.
وأكدت أنه ليس من المتوقع أن يعودوا، كما أن عمليات الإغلاق بسبب وباء كورونا، أدت لإغلاق مراكز تدريب واختبار سائقي الشاحنات، ما يعني أن هناك أعدادا أقل من السائقين دربوا واختبروا، وكان عدد السائقين القادرين على اجتياز الاختبار العام الماضي أقل بمقدار 25 ألف سائقا، مقارنة بعام 2019، وكثير من السائقين الكبار في السن تقاعدوا ولم يتم تعويضهم بسائقين جدد".
لكن بعض أعضاء حزب المحافظين مثل دانيل كبلينج، نائب رئيس فرع الحزب في منطقة أوربينجتون يحمل وسائل الإعلام مسؤولية الأزمة الراهنة إلى حد كبير، إذ يقول لـ"الاقتصادية"، "باعتراف الجميع وفي مقدمتها شركات النفط هناك كثير من الوقود المتاح، والنقص الحالي ناتج عن ارتفاعات مؤقتة في طلب العملاء نتيجة حالة الذعر، التي دفعت المستهلكين إلى الشراء الكثيف غير المبرر وتخزين النفط، وذلك نتيجة التغطية الإعلامية، التي أدت إلى تأجيج الوضع".
وكانت جمعية تجارة التجزئة للبنزين قد أعلنت أن الطلب على الوقود ارتفع 500 في المائة، عما كان عليه قبل أسبوع في إحدى محطات الوقود، وأعلن بنك إتش إس بي سي أن قيمة المعاملات في محطات الوقود خلال عطلة الأسبوع الماضي، زادت بمقدار الثلثين.
الضغط الشعبي وصورة بريطانيا على المستوى الدولي خاصة أنها ترفع شعار "بريطانيا العالمية" منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، دفع الحكومة إلى البحث سريعا عن حلول لمواجهة الأزمة.
وعملت على تعليق قانون المنافسة بين شركات النفط، ما يسهل على الشركات تبادل المعلومات حول إمدادات الوقود وإعطاء الأولوية للمناطق الأكثر احتياجا، وتسهيل الإجراءات الخاصة بمنح رخصة قيادة سائق شاحنة، إضافة إلى إرسال نحو مليون خطاب إلى مليون من سائقي الشاحنات في المملكة المتحدة والذين يحملون رخصة قيادة لكنهم لا يريدون العمل لعديد من الأسباب منها انخفاض الرواتب.
وشملت الإجراءات خطة لتدريب أربعة آلاف فرد ليعملوا سائقي شاحنات خلال فترة وجيزة، إضافة إلى ذلك أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستقدم تأشيرات مؤقتة لخمسة آلاف من سائقي الشاحنات وصهاريج الوقود وشاحنات الطعام للعمل في المملكة المتحدة، فهل تكفي تلك الحلول لإيجاد حل مؤقت ودائم أيضا لتلك المشكلة؟
يعتقد كاري جراينت من اتحاد سائقي الشاحنات أن تلك الحلول قد تخفف نسبيا من المشكلة حاليا، لكن لن تمثل حلا ناجعا طويل الأمد لها، كما أن المشكلة يمكن أن تتكرر مرة أخرى في فترة أعياد الميلاد
ويقول لـ"الاقتصادية" "إذا كان العجز الراهن في سائقي الشاحنات في المملكة المتحدة 100 ألف سائق، فإن تلك المشكلة موجودة منذ أعوام لأن متوسط عمر السائق هو 55 عاما، والصناعة غير جذابة، وظروف العمل غير جيدة".
ويضيف: "الحلول الحكومية المطروحة لن تفلح في حل الأزمة خلال أيام، وربما يتطلب الأمر أسابيع، كما أن الزيادة، التي ستتحقق في أعداد السائقين ستكون محدود ولن تغطي في أفضل التقديرات ربع العجز الراهن، وهناك شكوك في أن تجذب التأشيرات المؤقتة لسائقي الشاحنات الأوروبية السائقين للقدوم للعمل في بريطانيا، لأن تلك التأشيرات مؤقتة ومرتبطة بفترة زمنية محددة هي ستة أشهر، ونحن نقترب من فترة أعياد الميلاد، حيث يفضل كثير من سائقي الشاحنات البقاء في أوطانهم بجوار الأسرة للاحتفال بالأعياد"
والحل يكمن -من وجهة نظره- في تحسين الطريقة، التي يعامل بها سائقو الشاحنات، بما يعنيه ذلك من زيادة الرواتب، ما يمكن أن يجذب جزءا كبيرا من نحو مليون بريطاني يحملون رخص قيادة شاحنات وصهاريج وقود، لكن مشكلة اليوم لم تكن سلبية في جوانبها كافة، فالمعاناة في الحصول على الوقود دفعت كثيرا من البريطانيين في النظر في بديل آخر، باستبدال مركباتهم الحالية، التي تعمل بالوقود بسيارات كهربائية أو هجينة، فقد زادت نسبة مشاهدات الإعلانات الخاصة بالسيارات الكهربائية الجديدة والمستعملة 28 و61 في المائة على التوالي.
كما شهدت الأسواق زيادة في عدد الأشخاص، الذين يرسلون استفسارات لشركات وبائعي السيارات الكهربائية للاستفسار عن الأسعار، وتقدر بعض مواقع بيع السيارات على الإنترنت أن أربعا من كل خمس من أفضل السيارات الجديدة أداء من وجهة نظر المستهلكين كانت سيارات كهربائية.
ويقول لـ"الاقتصادية"، آرثر دين من موقع أوتو تريدر لتجارة السيارات "حتى عندما يتوافر الوقود في محطات الوقود، فإن قلق المستهلكين لن يتلاشى، فتلك التجربة ستكون عالقة في أذهانهم لفترة طويلة، ربما تكون كفيلة بتحفيز مالكي السيارات للقيام بعملية تحول من السيارات التقليدية إلى السيارات الكهربائية، لكن الأمر سيكون في حاجة إلى تحفيز ودعم حكومي".

الأكثر قراءة