تداعيات التشديد الكمي .. تسونامي اقتصادي يقترب من الأسواق الناشئة
يوم بعد آخر تقترب البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة من اللحظة الحاسمة لمواجهة الذات، لحظة تتعلق بمصير سياسات التيسير الكمي التي خدمت الاقتصاد العالمي خلال عشرية الأزمة المالية التي أطاحت باستقرار الاقتصاد العالمي منذ 2008.
كان من المأمول أن تبدأ البنوك المركزية الكبرى مثل الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا والمصرف المركزي الأوروبي والبنك المركزي الياباني في التخلي عن تلك السياسات تدريجيا.
لكن على العكس تم تمديدها وتكثيف العمل بها نتيجة تفشي وباء كورونا، وسياسات الإغلاق التي تبنتها الحكومات للحيلولة دون سقوط المزيد من الضحايا بسبب الوباء، تلك السياسات قامت بمقتضاها البنوك المركزية بضخ تريليونات الدولارات في الاقتصادات الوطنية، وزيادة مشترياتها من السندات الحكومية والقطاع الخاص لضمان استمرار العجلة الاقتصادية في الدوران. كل هذا يقترب الآن من نهايته. نعم لا يعرف على وجه التحديد متى يتم تنفيذ القرار، لكن القرار اتخذ بأن الاقتصادات المتقدمة لم تعد في حاجة إلى تلك السياسات.
تلك اللحظة التاريخية التي تقترب منها الاقتصادات المتقدمة، تدفع للتساؤل هل ينطبق الأمر ذاته على الاقتصادات الناشئة؟ هل البنوك المركزية في إندونيسيا والهند والبرازيل والأرجنتين وجنوب إفريقيا ونيجيريا وغيرها من الاقتصادات الناشئة قادرة على اتخاذ ذات القرار؟ وهل القطاع الخاص في تلك الاقتصادات قد نضج وأصبح قادرا على تحمل نتائج وقف سياسات التيسير الكمي؟
المؤشرات المتاحة تكشف أن الفجوة الراهنة في معدلات التطعيم ضد وباء كورونا بين الدول الغنية والفقيرة كبيرة، وأن الاقتصادات الناشئة غير قادرة على إعادة التشغيل بالقدرة ذاتها التي تتمتع بها الاقتصادات المتقدمة، ومن ثم فإن التخلي عن سياسات التيسير الكمي قد تترتب عليه آثار مدمرة لاقتصاداتها، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم التي يتوقع أن تضرب الاقتصاد العالمي قريبا.
لكن في الوقت ذاته فإن استمرار تلك السياسات يلقي بمزيد من الأعباء على ميزانيات البنوك المركزية، ويحول دون تفعيل آليات العمل الاقتصادي لتعمل بشكل طبيعي وفقا لميكنزمات العرض والطلب، بل والأكثر خطورة إيجاد رأي عام يستمرئ أنماط المساعدة تلك، ويعدها حقا مكتسبا ودائما، وليست إجراءات استثنائية، ومن ثم يثور وينفجر عند طرح محاولات حقيقية للإصلاح تتطلب إلغاء هذا النوع من المساعدة الاقتصادية.
العديد من الاقتصادات الناشئة شهدت في أوقات سابقة معدلات نمو عالية جدا لدرجة أن الاقتصاديين توقعوا أن يقترب متوسط الدخل في بعض الأسواق الصاعدة التي تعمل اقتصاداتها بكفاءة مع نظيره من الدول المتقدمة، فالسياسات المالية غير التقليدية التي تبنتها تلك الدول خلال الأزمة الاقتصادية العالمية، خففت ضغوط السيولة.
كما أفلحت في كسر دورات التضخم نتيجة تبني سياسة تجارية متحررة، الآن يبدو أن الوضع مختلف، فصندوق النقد الدولي يشير إلى تباعد كبير بين الدول الغنية التي تقترب من التطعيم الكامل والدول الفقيرة التي تعاني عدم التكافؤ في الحصول على اللقاح.
حاليا تحقق الدول المتقدمة معدلات نمو مرتفعة، هذا النمو المرتفع يعني باختصار أن الأوضاع المعيشية لشعوبها تتحسن، وأن مواطنيها يمتلكون أرصدة مالية أكثر من قبل، وبالطبع تترافق مع ذلك زيادة في طلبهم على السلع والمنتجات، ولأن جزءا كبيرا من تلك السلع والمنتجات مصدره الاقتصادات الناشئة والدول النامية التي لن تكون قادرة على تلبية هذا الطلب المتزايد حيث إن معدلات التشغيل لديها بسبب الوباء وانخفاض معدلات التطعيم تحول دون ذلك، فإن النتيجة المتوقعة ارتفاع معدلات التضخم في الدول المتقدمة.
وهذا يعني أن البنوك المركزية ستحاول كبح هذا التضخم برفع أسعار الفائدة، وبمجرد حدوث ذلك ستقدم سندات الخزينة في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي عوائد مالية جذابة مع مخاطر أقل، بما يدفع المستثمرين إلى سحب أموالهم المستثمرة في الاقتصادات الناشئة والنامية لإعادة استثمارها في الاقتصادات المتقدمة، بما يعنيه ذلك من تراجع القدرة الاقتصادية في الدول الأقل تقدما، ولن يكون أمامها من سبيل غير رفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل، واللجوء إلى مزيد من الاقتراض بمعدلات فائدة أعلى، ما سيحد من قدرتها على النمو الاقتصادي، خاصة أن التعافي الاقتصادي فيها لم يحقق نتائج إيجابية بعد بسبب عدم قدرتها على التطعيم على نطاق واسع.
البروفسير إل. سي تشارلز أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة باث يرى أن الاقتصادات الناشئة تواجه أكبر تحد في مسيرتها الاقتصادية.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "أغلب الاقتصادات الناشئة غير مهيأة في الوقت الراهن لرفع أسعار الفائدة، حيث إن أسعار الفائدة لديها مرتفعة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، كما أن حدوث ذلك يعني تعرض القطاع الخاص المحلي لضغط غير عادي خاصة أنه مكبل بالديون التي لجأ إليها بكثافة خلال العامين الماضيين ليكون قادرا على مواصلة النشاط في ظل سياسة الإغلاق".
ويضيف "والبديل هو فرض تلك الدول ضوابط على حركة رأس المال لمنع الاستثمارات من مغادرة البلاد، هذا بالطبع سيضرب مفهوم سياسة التحرر الاقتصادي لديها في مقتل، لكنه قد يكون السبيل الوحيد أمامها للحد من هروب رؤوس الأموال إلى الخارج، بما يتركه نزوح رؤوس الأموال من انعكاسات سلبية للغاية على قيمة العملة الوطنية، كما أن التحكم في نظام الصرف لديها سيربك سياسة التيسير الكمي المتبعة".
الواقع العملي إلى حد كبير وفي العديد من الاقتصادات الناشئة يبرهن على صحة التحليل أعلاه، فالبنوك المركزية في الهند وإندونيسيا و18 اقتصادا ناشئا قامت أخيرا بشراء سندات حكومية من أجل تسهيل الأوضاع المالية وخفض أسعار الفائدة طويلة الأجل، وقد أفلحت تلك الدول في تجنب التضخم السريع، وكذلك انخفاض قيمة عملتها نظرا لتطبيق سعر صرف متغير، ولا تزال الأسواق في تلك الدول تتوقع أن تواصل البنوك المركزية الوطنية عملية شراء السندات، إذ إن أي بديل آخر قد يعرض الاقتصاد الوطني لهزات كبيرة.
لكن الخبير الاستثماري رايس مايتشل يرفض وجهة النظر تلك، ويرى أن مواصل سياسة التيسير الكمي في الاقتصادات الناشئة ليست أكثر من حقنة مخدر قصيرة الأمد، ولا تمثل علاجا ناجعا على الأمد الطويل، بل إنها توجد أحاسيس زائفة بأن كل شيء على ما يرام، بينما الحقيقة غير ذلك.
ويقول لـ"الاقتصادية": في أوقات الأزمات يكون هناك إغراء اقتصادي للاعتماد على البنوك المركزية، ولكن المشكلة في ذلك هي إيجاد حالة من الاسترخاء والتكاسل وما يشبه الإدمان الاقتصادي على ما تقدمه البنوك المركزية من دعم، والنتيجة أن الآليات الفعلية للاقتصاد ستتوقف عن العمل، وهذا ما حدث في دولة مثل كولومبيا التي انخرطت بقوة في سياسة التيسير الكمي، والنتيجة أنها حاليا تواجه نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت 62 في المائة، وعندما طرح الرئيس سياسة الإصلاح الضريبي لدفع تكاليف ما أنفقته حكومته لمواجهة الوباء، ولم تكن كولومبيا قد طعمت غير 7 في المائة من السكان، وقعت احتجاجات عنيفة.
ويضيف "لابد من أن يكون هناك وعي عام بأن سياسة التيسير الكمي قد تعيق الاقتصادات الناشئة من المضي قدما في تحقيق معدلات نمو مرتفعة في الأجل الطويل، وأن ما توجده من ارتياح اقتصادي في الوقت الراهن ارتياح مؤقت".
يعتقد قطاع كبير من الخبراء أن الاقتصادات الناشئة لن تخرج من أزمة ديونها دون حدوث تضخم لعملاتها، ولا يمكنها الاستمرار في شراء السندات الحكومية إلى أجل غير مسمى، دون أن يثير ذلك قلق المستثمرين، وتدريجيا تنفد قدرة العديد من الاقتصادات الناشئة على تخفيف الضغوط المالية الداخلية وفي الوقت ذاته جذب الاستثمارات الخارجية.
من جهتها، تحذر الدكتورة ماري أديسون أستاذة الاقتصادات الناشئة في جامعة لندن من الإسراع بإلغاء سياسة التيسير الكمي، معتبرة أن تخلص البنوك المركزية في الأسواق الصاعدة منها تدريجيا دون إطار زمني محدد أو صارم ربما يكون الحل الأمثل.
وتؤكد لـ"الاقتصادية" أنه يمكن للتيسير الكمي منح الاقتصادات الناشئة بعض الوقت لتصميم حل مناسب يلبي المطالب الاجتماعية مثل ضمان الاستقرار والحصول على الرعاية الاجتماعية، مع الحفاظ على ظروف ملائمة للاستثمار الأجنبي.
لكنها في الوقت ذاته تحذر من أن الاقتصادات الناشئة يمكن أن تواجه ما تسميه موجات تسونامي اقتصادي متتابعة وفي وقت واحد، إذا ما قامت البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة بالتخلص من سياسات التيسير الكمي في الوقت ذاته أو على فترات متقاربة.
وتقول "إذا ما حدث ذلك فإن الاقتصادات الناشئة ستواجه تسونامي عنيفا نتيجة انسحاب الاستثمارات الأجنبية خاصة ما يعرف برؤوس الأموال الساخنة التي تبحث عن أسعار الفائدة المرتفعة، وتسونامي آخر نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة الدولية، ما يعني انخفاض قدرتها على الاقتراض، وتسونامي نتيجة زيادة قيمة ديونها الخارجية مقيمة بعملتها المحلية أو كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي".
ويعد بعض الخبراء أن قيام البنوك المركزية الكبرى بالتخلص من سياسة التيسير الكمي دون تنسيق مع البنوك المركزية في كبريات الاقتصادات الناشئة، أو أن تأخذ في الحسبان ظروفها الاقتصادية، سيكون بمنزلة "خيار شمشون" حيث يمكن أن يؤدي إلى تداعي الاقتصاد الدولي، وسقوط بعض أحجاره على الرؤوس، ليعيد الاقتصاد الدولي الكرة بالعمل على إصلاح الوضع بالعودة مجددا إلى تبنى سياسات التيسير الكمي وخفض أسعار الفائدة، ولكن الوقت قد يكون قد فات لتأتي تلك السياسات بمفعول حقيقي إذا ما أمسكت معدلات التضخم المرتفعة بتلابيب الاقتصاد الدولي لتعقد المشهد الاقتصادي العالمي وتزيده ارتباكا.
على أي حال المؤشرات الراهنة والتواصل المستمر والدائم بين محافظي البنوك المركزية في الدول المتقدمة والناشئة تشير إلى أن تلك المخاوف لا تبدو بعيدة عن أذهان الطرفين على حد سواء، فهناك حرص على تجنب نوبة الغضب التي سادت العلاقة بينهما في 2013 عندما خفضت البنوك المركزية الكبرى مشتريتها من السندات الحكومية حينها، ما أدى إلى موجات عنيفة من هروب رؤوس الأموال الأجنبية من الاقتصادات الناشئة إلى الاقتصادات المتقدمة.
لكن محافظي البنوك المركزية في الاقتصادات الناشئة يراهنون على أن نظراءهم في الاقتصادات المتقدمة قد تعلموا الدرس، وأنهم أكثر إدراكا الآن أكثر من أي وقت مضى بأن التداخل الاقتصادي العالمي يتطلب من البنوك المركزية الرئيسة أن تعي أنه لم يعد من الممكن لها تحقيق مصالحها بشكل مطلق على حساب الاقتصادات الناشئة تماما، وأن الاقتصادات المتقدمة إذا لم تساعد على دعم تعافي الأسواق الصاعدة، فإن تجربة 2013 ستتكرر بما يدفع الاقتصادات الناشئة إلى الوراء لأعوام، لكنه سيعيق في الوقت نفسه الاقتصادات المتقدمة من تحقيق النمو المستهدف.