المغرب .. الصناديق تثور ضد «العدالة والتنمية»
شهد المغرب، الأربعاء الماضي، أكبر معركة انتخابية في تاريخ البلاد، بتزامن تنظيم الانتخابات التشريعية "مجلس النواب" مع الانتخابات المحلية "مجالس الجماعات والمقاطعات"، تتلوها بعد أسبوع، انتخابات أعضاء مجالس العمالات والأقاليم "المحافظات"، فانتخابات أعضاء مجلس المستشارين "الغرفة الثانية في البرلمان" 5 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. شارك في هذا الاستحقاق الانتخابي 32 حزبا سياسيا، تنافست للظفر بأصوات نحو 18 مليون مغربي.
كانت نتائج الاستحقاق الانتخابي التي أعلن عنها وزير الداخلية صباح 9 أيلول (سبتمبر) طبيعية بالنسبة إلى معظم الأحزاب الفاعلة في المشهد السياسي المغربي، باستثناء حزب العدالة والتنمية، حيث مثلث مخرجات الصندوق نكسة كبيرة للإسلاميين في الحكومة، بفقدانهم 112 مقعدا برلمانيا، إذ لم يتمكنوا من الفوز سوى بـ13 مقعدا فقط، ما يعني عجزهم على تشكيل فريق نيابي في البرلمان، فالحد الأدنى لتكوين الفريق هو 20 برلمانيا.
وفقد الإسلاميون، على الصعيد المحلي، مهمة تسيير المدن الرئيسة، ومعظم البلديات الحضرية والجماعات القروية التي فازوا بها في الانتخابات المحلية، وخرجوا في مدن وقرى كانوا يمتلكون في مجالسها الأغلبية الساحقة بـ"صفر" مقعد هذه المرة. اندحر الحزب بذلك، من صدارة الانتخابات 2016 إلى الرتبة الثامنة في استحقاق الأسبوع المنصرم، فالحزب لم يتراجع برتبة أو رتبتين أو حتى ثلاث، إنما هوى سحيقا ليتدلى آخر ترتيب الأحزاب الفائزة.
زيادة على ذلك، لم تتمكن قيادات الصف الأول في الحزب، بما في ذلك وزراء ممن ترشحوا، من الحفاظ على مقاعدهم. فخسر سعد الدين العثماني رئيس الحكومة السابق والأمين العام للحزب مقعده في الرباط، وفقد محمد أمكراز وزير الشغل مقعده البرلماني في موطن ولادته مدينة تزنيت، وعجز سليمان العمراني نائب الأمين العام في الحفاظ على مقعده في مدينة تمارة، وفشل مصطفى الخلفي وزير الاتصال سابقا في كسب مقعد في سيدي بنور ضواحي مدينة الجديدة.
لم يكن فوز حزب التجمع الوطني للأحرار بالمرتبة الأولى مفاجئا لكثير من متابعي الشأن السياسي المغربي، بالنظر إلى الحملة المبكرة لتسويق الحزب والزعيم على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، علاوة على علاقته القوية بالقصر الملكي وأجهزة الدولة، ما أوحى إلى عموم المغاربة بأن حزب رجل الأعمال يحظى بالدعم المباشر من هرم الدولة.
يدير عزيز أخنوش زعيم الحزب الفائز بالانتخابات "102 مقعد"، ورئيس الحكومة المكلف بتشكيلها، مجموعة "أكوا" الاقتصادية التي تضم نحو 50 شركة، في مختلف القطاعات، وتتوزع استثماراتها على قطاعات المحروقات والعقار والإعلام والاتصالات والسياحة، حتى قيل، على سبيل التهكم، "إن الملياردير يبيع للمغاربة الأكسجين"، للدلالة على كثرة وتنوع استثماراته، لكن سرعان ما ينقلب هذا التهكم إلى حقيقة، بعد معرفة أن شركة "المغرب للأكسجين" المزودة للمستشفيات المغربية بالأكسجين، من أملاك الرجل.
كما لم تكن خسارة حزب العدالة والتنمية بالأمر الطارئ، بالنظر إلى تراكم عديد من المؤشرات التي توحي بأن نهاية الإسلاميين قادمة لا محالة، فالأداء الحكومي وشرعية الإنجاز لم يسعفا كثيرا في إقناع الرأي العام، ودفع الاستسلام لشهوة السلطة وحلاوة المنصب، عند أول اختبار، إلى ارتكاب أخطاء قاتلة، هزت بنيان الحزب، وحولت الأزمة التنظيمية إلى أزمة سياسية.
توالت سقطات الإسلاميين في المغرب تباعا، حتى فقدوا كل المساحيق التجميلية المستعملة للاختلاف عن بقية الأحزاب السياسية، فسقطت أسطورة الدفاع عن "الهوية الإسلامية" التي يميز بها الحزب نفسه مغربيا وعربيا، بإقدام رئيس الحكومة على توقيع اتفاق تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وجاءت مصادقة المجلس الحكومي على مشروع قانون لتقنين زراعة القنب الهندي "مخدر الحشيش"، وقبلها كانت واقعة قانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين التي فرضت اللغة الفرنسية في التعليم بديلا عن اللغة العربية.
وتناقض حزب العدالة والتنمية مع نفسه، بعدما انقلب على شعاره النضالي "صوتك فرصة ضد الفساد والاستبداد"، مع مرور الوقت بعد استئناسه بالمكاتب الحكومية ودهاليز الوزارات إلى النقيض تماما. فبعد مواجهة الإسلاميين للفساد في هياكل وأجهزة الدولة "الريع، البيروقراطية، الزبونية..." اختار رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران انتهاج سياسة "عفا الله عما سلف" لمواجهة الفساد والمفسدين في الدولة.
أتقن الإسلاميون، طيلة عشرة أعوام، من وجودهم في مواقع المسؤولية والقرار ازدواجية الخطاب، فخلال أيام الحملة يحضر خطاب المظلومية، مقابل ذلك ينتصرون لخطاب التبرير بمجرد بلوغهم موقع المسؤولية. فأنصارهم لا يتوقفون، طيلة أيام الحملة الانتخابية، وأمام عموم المواطنين، عن تأكيد أن السلطة تخشى حزب المصباح، لذلك حاولت تغيير قواعد اللعب للنيل من شعبيته.
يتجه الإسلاميون بعد عقد من التدبير الحكومي، إلى العودة إلى نقطة البداية، أي 12 مقعدا التي حصدوها في أول انتخابات تشريعية شاركوا فيها 1997. وبعيدا عن تأويلات "العقاب السياسي" و"الانتقام السياسي" الرائجة في المشهد المغربي، نشير إلى أن سقطة الإسلاميين مقبلة لا محيد عنها، ولا سيما أن الجمهور المغربي اكتشف، بعيد عشرة أعوام، على اختبار فرضيات مشروعهم الأيديولوجي أن الفوارق تكاد تنعدم بينهم وبين بقية الأحزاب الفاعلة في المشهد السياسي.
استغل حزب العدالة والتنمية خلو مسيرته من تجربة حكومية سابقة، ليقنع المغاربة بالرهان عليه، مستندا في ذلك إلى خطاب وعظي أكثر منه سياسيا، فأدخلوه إلى الحكومة من باب صناديق الاقتراع في نوفمبر 2011، ومنحوه ما يكفي من الوقت لاختبار كل ما تجود به أوراقهم وأدبياتهم، قبل أن يدركوا أن مشروعهم السياسي وهم على وهم في وهم، ولا شيء غير ذلك. فقرروا سحب الثقة في استحقاق الأربعاء 8 أيلول (سبتمبر).