هل يفسر السلوك الإنساني بمدخل الثوابت؟
التفكير في الأحداث المحيطة عالميا، أو إقليميا، أو محليا يجبر الفرد على محاولة تفسيرها بصورة علمية تكشف الأسباب الكامنة وراءها، وما من شك أن الباحثين، والدارسين، ومراكز الأبحاث ذات العناية بالسلوك البشري أولت الموضوع جل اهتمامها، لما في ذلك من مكاسب تتحقق على المستوى الاقتصادي، والفكري، والأيديولوجي، وقد أنتجت الأبحاث في هذا المجال ما يمكن تسميته بمداخل تفسير السلوك، وهذا لا يقتصر على سلوك فرد بعينه، بل السلوك الأغلب على شعب، أو أمة من الأمم.
من مداخل التفسير: المدخل النفسي، والاجتماعي، والطبيعي المادي، ويهتم المدخل النفسي بتفسير السلوك على مستوى الفرد بكينونته الذاتية على افتراض أن السلوك نتاج احتياجات فسيولوجية، أو نفسية، ورغبات، وغرائز فردية بحتة تحرك السلوك الإنساني ليكون بهذا الاتجاه، أو ذاك، إلا أن المدخل الاجتماعي يتعامل مع السلوك البشري باعتبار الفرد عضوا في منظومة اجتماعية، لها مكوناتها، واحتياجاتها المحيطة بالفرد كالأسرة، أو المنطقة، أو الوطن، أو المجتمع الإنساني بكامله، وتمثل عوامل تأثير، وتحريك لسلوك الفرد أيا كانت طبيعة السلوك، ويضرب المثل على ذلك من خلال ما يطرأ على الفرد من تغير في سلوكه عند انضمامه لمجموعة عمل تتسم بالانضباط، والجدية، كما يلاحظ على موظفي شركة أرامكو على سبيل المثال لا الحصر الذين اكتسبوا قيم عمل، وحياة لم تكن لديهم من قبل، رغم اختلاف خلفياتهم، والمناطق التي جاءوا منها.
المدخل الطبيعي يتمثل كما يرى أنصاره بتأثير عوامل البيئة الخارجية المتمثلة في ظروف الطقس والمناخ وبيئة الصحراء وبيئة الجبال والبيئة الساحلية، ويضرب أنصار هذا الاتجاه أمثلة على ذلك، فمن يسكن الصحراء تجبره ظروفها على أخذ كل الاحتياطات لحماية نفسه، كاقتناء كلب حراسة، والسكن بالقرب من موارد المياه، وهكذا مع كل حاجات التكيف مع تنوع، وتغير الظروف.
المدخل الرابع الذي أرى أهمية تناوله بشكل أكثر تفصيلا هو مدخل الثوابت، وأعتقد أنه يفسر لنا كثيرا من السلوك، والتصرفات ليس على مستوى الأفراد، بل على مستوى الأمم، والعلاقات الدولية فيما بين الدول، سواء كانت علاقات حميمية، أو متوترة، قد تصل لحد الاقتتال، والحروب.لا يمكن فهم مدخل الثوابت دون عملية تحليل لرموز الدول الممثلة لهوية الدولة، أو المجتمع المتمثلة في معتقد يتم الاحتكام إليه، واحترامه، والمحافظة عليه، والدفاع عنه بكل الوسائل، والطرق، وتختلف المجتمعات في مصدر معتقدها، إذ قد يكون دينيا، أو فلسفيا، أو نتيجة اجتهادات فردية أسهمت في تشكيلها قوى مختلفة في أيديولوجيتها، ومصالحها، أو انتمائها.
يتم التعبير عن المعتقد أيا كانت طبيعته من خلال دستور تم بناؤه من قبل منظرين، ومفكرين، أو يتم اشتقاقه من مصدر التشريع المعتمد في المجتمع، ولذا نجد كثيرا من الدول تنص في دستورها على معتقدها المستند إليه لتسيير كل شؤون الحياة، وتسهيل سيرورتها، وتكون الدلالة على المعتقد، أو الفلسفة المتبناة من خلال العلم الوطني، فالدول الإسلامية تحمل راياتها عبارة لا إله إلا الله، أو الله أكبر، أو الهلال، في حين الدول المسيحية تضع على أعلامها الصليب، وفي الدول مختلطة المعتقد تضع رمزا جامعا لكل الفئات، كشجرة الأرز على علم لبنان، أو يكون العلم مكونا من ألوان ليست لها دلالة متحيزة لفئة دون أخرى.
عامل ثابت، ومتغير في الوقت نفسه، له دور رئيس في تحريك السلوك المؤسسي، ألا وهو المصلحة المتغيرة، المتجددة ذات التأثير القوي في العلاقات بين الدول، وهذا العامل يفسر لنا كثيرا من النزاعات، والحروب التي حدثت عبر العصور، وتحدث في كل أرجاء العالم، فإذا كانت الحروب تحدث دفاعا عن المعتقدات، والأيديولوجيا فإن المصالح متمثلة في الدفاع عن السيادة، والأراضي، والثروات تمثل أساسا للنزاعات، فحرب الكوريتين، وحرب فيتنام، والحربان العالميتان، وحرب داحس والغبراء اختلطت في أسبابها مصلحة الانتصار للذات متمثلة في الوطن، أو القبيلة، وبسط النفوذ الرأسمالي، والاشتراكي في زمن السباق بين المعسكرين، إضافة إلى مصالح الثروات.
في عام 1982 من القرن الماضي، وبعد تفجير المارينز في بيروت غزت أمريكا دولة جرينادا، وعلل الرئيس ريجان وقتها غزو الدولة الصغيرة، والفقيرة أن حكومتها ماركسية، وتهرب المخدرات لأمريكا لتختلط الدوافع الأيديولوجية، ومصلحة الدفاع عن السيادة، وصرف الانتباه عن التفجير الذي أودى بحياة 250 أمريكيا.