المعمار والإنسان .. «نصنع الأبنية وتصنع حياتنا»

المعمار والإنسان .. «نصنع الأبنية وتصنع حياتنا»
بإمكان التصاميم المعمارية أن تتناسب مع احتياجات ورغبات الأفراد ما يجعل الأشخاص أكثر سعادة.

يقضي الإنسان حياته وسط جدران وداخل أبنية، تلعب دورا محوريا في تشكيل أفكاره، وتحديد تصرفاته وسلوكياته، فهناك صلة وثيقة بين سلوك الإنسان والفضاء الذي يقطنه. وقد سبق لونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني أن تنبه إلى ذلك، حين قال "نحن نصنع أبنيتنا، ومن ثم هي تصنعنا وتنظم مجرى حياتنا"، مؤكدا وجود ترابط بين العمارة وسلوك الإنسان، فتصميم البيئة التي يعيش فيها الأفراد، له تأثير كبير فيهم.
يعيش الإنسان 2/3 حياته في فضاءات بهندسة معينة، وسط أشكال إضاءة صناعية وأثاث وألوان... وغير ذلك من الأشياء التي ينظر إليها عادة بعين الحياد، عند أي بحث حول حياة وعيش الفرد. لكن نتائج الأبحاث كشفت زيف هذا الادعاء، إذ أثبتت التجارب أن أوساط العيش لها انعكاس واضح على طبيعة الحياة، وحتى بناء وتكوين الشخصية. صحيح، أن مساعي التخطيط العمراني هي تحسين حياة الإنسان، وتنظيم سلوكه. يبقى المثير فعلا أن هذا التنظيم يؤثر في المرء دون شعور منه، فقد يحد من حرياته، أو يفرض عليه سلوكا ما، أو يدفع - مع مرور الوقت - إلى التفريط في عادة متوارثة أو إهمال طقس اجتماعي.
إيلاء الاهتمام بمسألة تأثير العمران في الإنسان، أدى إلى اعتبار منظمة الصحة العالمية "متلازمة مرض المبنى" SBS ضمن قائمة الأمراض المعاصرة، واعترفت به كمرض مستقل بأعراض وخصائص وطرق علاج. وتقدر أحدث تقارير الهيئة الأممية أن المتلازمة تصيب نحو 30 في المائة من المباني الحديثة، وما بين 10 إلى 30 في المائة من قاطنيها.
تعود بدايات ظهور هذه المتلازمة إلى سبعينيات القرن الماضي، مع بداية انتشار وسائل التبريد والتدفئة الصناعية والأجهزة الكهربائية. وتميزت بتقاسم مجموعة من الأشخاص داخل مبنى معين، أو في جزء منه، الأعراض ذاتها التي قد تختفي عند الانتقال إلى سكن صحي، وقد لا تختفي متى أضحت أعراضها دائمة. في السياق نفسه، أثبتت دراسة أن الأشخاص الذين يعملون في أماكن جيدة التصميم والبناء، عادة ما لا يأخذون إجازات مرضية، ولهم تركيز أقوى ومساهمة أفضل في العمل، مقارنة بنظرائهم القاطنين في "المباني المصابة".
نشير إلى أن نقاش خبراء التخطيط والمعمار بشأن الموضوع متقدم جدا، فمنذ النصف الأول من القرن الماضي والصراع يحتدم بين رواد يمثلون اتجاهات داخل مدرسة العمارة الحديثة، بشأن الرؤى والتصورات المتعلقة بأنماط الهندسة المعمارية. فظهر أنصار المدن الرأسية، أو ما يعرف بالرأسية العمرانية التي توفر الأرض، وتزيد عدد الأشخاص لكل متر مربع بطريقة صحية، وتقلل من ضياع الوقت بين العمل والمنزل، نظير مؤيدي المدن الأفقية التي تستجيب للأذواق، بمنح الأفراد حرية الاختيار في التصميم، وتحترم الخصوصية، باستجابتها للاحتياجات الإنسانية، كما تحافظ على الهوية والثقافة المحلية.
حرص كل فريق على تعزيز أطروحته بدلائل تجعلها صلبة أمام الأخرى، فظهرت دراسة تحذر من أن تزايد أعداد السكان، وعيشهم متزاحمين بقرب بعضهم، يزج بهم في "زمن التوتر"، إذ يشعرون بنوع من التهديد الوجودي مع الإرهاق والتوتر، إلى جانب بروز مظاهر الفوضى والانحرافات السلوكية.
واعترض المهندس فرانك لويد رايت على فكرة المباني الرأسية، معتبرها إعلانا بموت الخصوصية الفردية، فالمباني الشاهقة توجد مساحات عالية الكثافة، وتنعدم فيها المساحات الخارجية، ما يثبت فكرة "الشخص الميكانيكي" في حق ساكنيها. لذا لم يتردد في القول "إن وضع الناس في الحاوية نفسها خطأ كبير"، خاصة بعدما "أصبحت ناطحات السحاب جميعا متشابهة في كل شيء، إن بنية ناطحة السحاب هي مجرد مسألة تقليد مشوه".
من جانبها، ترفض كاثرين باور المعمارية فكرة التمدد الرأسي للمدن، فالأصل أن النمو يجب أن يكون أفقيا، فالمسكن المثالي يجب أن يحتوي على حديقة خاصة، ومساحة كافية للاحتياجات الفردية، ويجب أن يكون وفقا للتقاليد الثقافية والقيم التاريخية. فالمسكن - في رأيها - أكبر من مجرد مأوى أو ملجأ، إنه مكان يؤسس شبكة اتصال مع من حوله في الحي أو الحارة أو الزقاق أو الدرب، وهذا ما لا تسمح به حالة الامتداد الرأسي، حيث نجبر - وفق قولها - على "أن نكون جزءا من آلة طوال اليوم، هم يريدوننا أن نكون روبوتا مثاليا، يعيش في بيئة غير شخصية، نحن نعترض على محاولة ميكانيكية المجتمع".
يجادل معماريو القرن الـ20 في مسائل حسمها أهل العمران في الحضارة العربية الإسلامية منذ القرون الأولى، فعديد من المعايير الإنسانية التي ينادي بها منظرو الهندسة الحديثة نجدها حاضرة في المدن العربية القديمة مثل بغداد وفاس والقاهرة والقيروان ومراكش وغيرها، حيث يوجد طابع عمراني وهوية عمرانية، تعكس فلسفة الوجود والإنسان ورؤيته لقيم الجمال، كما حضر التناغم والانسجام التام مع الطبيعة والمناخ في الجغرافيا العربية.
عادة ما يقع المسجد في قلب هذه المدن، لا باعتباره مكانا للعبادة والشعائر الدينية فقط، إنما كذلك لدلالته الرمزية على سلطة المعرفة في قلب المدينة، فالجامع ملتقى طلاب العلم من أقاصي المدينة وحتى خارجها. ومن ثم كانت تتوزع حوله المدينة، وتنتشر في تنظيم متناغم، ينتهي بأسوار تشكل درع المدينة وحصنها في وجه الأعداء.
بعيدا عن مباهج تاريخ مجيد، نتنكر له في كل لحظة وحين، نشير إلى أن هندسة الأسواق والمتاجر الكبرى تأخذ في الحسبان سلوكيات الأفراد/ المستهلكين، حتى تصل إلى أقصى استفادة من المبنى. فعادة ما يكون وضع سلال التسوق في أماكن معينة، قصد التأثير في سلوك المستهلك. الأمر ذاته ينطبق على محال الوجبات السريعة، إذ نجدها تقدم الأكل إلى الزبائن على مقاعد غير مريحة، لإجبار المستعملين على عدم المكث طويلا.
وعن تأثير المعمار في العلاقات الإنسانية، كتب مبكرا ريتشارد توماس المؤرخ والمعماري الأمريكي في ورقة بعنوان "من الرواق إلى الباحة المكشوفة"، حين وصف التحول المذهل، في فترة ما بعد الحرب، لأنماط المنازل، حيث اختفى الرواق الأمامي، الذي عد سابقا أبرز معالم المنزل، لمصلحة باحة مكشوفة مدسوسة خلف المنزل. يصف الدور الاجتماعي والمدني الذي مارسه الرواق، ليس فقط بتوفير درجات حرارة أكثر برودة في عصر ما قبل أجهزة تكييف الهواء، لكن بتوفير "مساحات وسيطة"، ونوع من المساحة الحضرية، بين العالم الخاص للمنزل والمساحات العامة لرصيف المشاة والشارع. الرواق الأمامي، الذي غالبا ما كان يقع ضمن مسافة قصيرة من الرصيف لتجاذب أطراف الحديث، كان انعكاسا معماريا لعصر ذي توقعات كبيرة للتواصل الاجتماعي بين الجيران.
حاصل القول، إن المبنى قد لا يجعلك في صحة جيدة، لكنه حتما سيجعلك مريضا، فالتصاميم الفاشلة لعديد من المباني في العالم جعلت منظمة الصحة العالمية تنحت مفهوم "المباني المصابة". وهكذا بإمكان التصاميم المعمارية أن توفر مساحات قابلة للتكيف، حتى تتناسب مع احتياجات ورغبات الأفراد، ما يجعل الأشخاص أكثر سعادة. علاوة على إمكانية توظيف تصميمات تشجع على السلوك الصحي، مثل بناء سلالم جذابة من الناحية الجمالية، تكون دافعا للنشاط البدني.

الأكثر قراءة