مخاوف من إنهاء المساعدات الأوروبية في مواجهة كورونا.. .. ارتفاع حالات الإفلاس والبطالة
بعد نحو 18 شهرا من اعتماد الاقتصاد الأوروبي على برامج المساعدات الطارئة والمكثفة لمواجهة وباء كورونا، بدأت الحكومات في جميع أنحاء القارة الأوروبية العمل على تقليص المساعدات الحكومية تدريجيا، مبررها في ذلك أن معدل النمو الاقتصادي يتحسن وبات أكثر إيجابية، كما أن عمليات التطعيم ضد الوباء في تزايد.
لكن بعض الخبراء يعتقدون أن الوقت لم يحن بعد لتراجع الحكومات في تقديم المساعدات المالية أو خفضها، فعلى الرغم من تواصل عمليات التطعيم، فإن أعداد الإصابات لا تزال مرتفعة في كثير من الدول الأوروبية، والعوائق أمام التعافي الاقتصادي الكامل لا تزال كبيرة وقائمة، ما يثير مخاوف بشأن أن يؤدي إنهاء المساعدات إلى ارتفاع حاد في معدلات الإفلاس، خاصة بين الشركات الصغيرة ومن ثم ارتفاع معدل البطالة.
ففي بريطانيا على سبيل المثال أوقفت الحكومة المنح المقدمة للشركات، التي استأنفت نشاطها بعد أن أغلقت لأشهر نتيجة فيروس كورونا، حيث أعلن وزير المالية البريطاني أنه سينهي بحلول شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل الزيادة، التي منحها لإعانات البطالة.
كما أن ما لا يقل عن نصف الدول الـ19، التي تستخدم العملة الأوروبية الموحدة اليورو، قلصت بشكل حاد المساعدات التي قدمتها خلال فترة الجائحة، وحاليا تخطط إسبانيا والسويد للتخلص التدريجي من الإعانات، التي قدمتها، وتبلغ قيمتها مليارات اليوروهات، كما أعلنت ألمانيا انتهاء صلاحية قاعدة إعفاء الشركات من إعلان إفلاسها، إذا لم تتمكن من دفع فواتيرها. ومعظم الدول الأوروبية تقترب حاليا من إنهاء إجازات سداد الديون للشركات، التي حصلت على قروض رخيصة مدعومة من الحكومة خلال العام الماضي عندما كان الوباء في ذروته.
تبني حكومات منطقة اليورو مواقفها "غير المحبذة" لمواصلة تقديم المساعدات الاقتصادية، على أرقام النمو الاقتصادي في المنطقة، التي تعد في الواقع أفضل قليلا مما كان متوقعا، إذ بلغت نسبة النمو 2.2 في المائة في الربع الثاني من هذا العام، مقارنة بالربع الأول، ويرجع ذلك للأداء الجيد للاقتصادين الإسباني والإيطالي.
مع هذا تبدو تلك المقاربة في حاجة إلى وقفة للتعرف على مدى دقتها، فاقتصاد الولايات المتحدة والصين أصبح الآن أكبر من ذروته في 2019، لكن منطقة اليورو لا تزال منخفضة عن أعلى مستوى اقتصادي حققته قبل الوباء 3 في المائة.
يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور هنري مايك الاستشاري في البنك المركزي الأوروبي، "لا نستطيع القول إن الاقتصاد العالمي تعافى بشكل كامل من وباء كورونا، والمتوقع أن تتعافى البلدان بسرعات مختلفة معتمدة في ذلك على هيكل اقتصادها الوطني، وتجارتها الخارجية ونسبتها من الاقتصاد الكلي، وإجمالي الدين العام ومعدلات التضخم والبطالة".
ويضيف "تجربة منطقة اليورو مع الأزمة المالية 2008 تكشف أنها كانت في حاجة إلى ستة أعوام ونيف لاستعادة مستوى الناتج المحلي الإجمالي قبل اندلاع الأزمة، بل إن دول مثل إسبانيا والبرتغال كانت في حاجة إلى عشرة أعوام لتستعيد عافيتها، ناهيك عن إيطاليا واليونان اللتين فشلتا حتى الآن في تحقيق ذلك، ومن ثم، فإن التجربة تخبرنا أن التعافي في الاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو يتطلب فترة زمنية أطول من التعافي في البلدان الأخرى، ولذلك قد يكون من المبكر الآن خفض المساعدات الحكومية المقدمة لقطاع الأعمال".
وبالفعل فعندما اجتاح وباء كورونا أوروبا وتحديدا بلدان اليورو الـ19، ظل معدل النمو في تلك البلدان يقع خلف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ناهيك عن الصين بالطبع.
يبدو منطقيا للغاية ما ينادي به كبار المسؤولين الاقتصاديين في بلدان الاتحاد الأوروبي عامة ومنطقة اليورو خاصة، بأنه لا يمكن مواصلة استخدام أموال دافعي الضرائب لتعويض خسائر القطاع الخاص إلى الأبد، وأن الوقت حان لتبني استراتيجية خروج من فكرة مواصلة مساندة الحكومات للقطاع الخاص.
ويطرح بعض الخبراء حاليا أفكارا بديلة تعرف باسم استراتيجية "تحويل المساعدات".
الدكتورة سارة كريستوفر، أستاذة الاقتصاد الكلي في جامعة لندن ترى أن تلك الاستراتيجية أكثر واقعية وقدرة على دعم النهوض الاقتصادي.
وتؤكد لـ"الاقتصادية" أنه بدلا من دعم الاقتصاد ككل، ومساندة جميع القطاعات الاقتصادية، يمكن تحويل المساعدات أو الإنفاق الحكومي في اتجاه القطاعات، التي يتوقع أن تتجاوز في أدائها المتوسط العام للنمو الاقتصادي، فقطاعات مثل التجارة الرقمية والطاقة المتجددة والبيئة يمكن إذا تم مساعدتها ماليا بقوة أن تتحول إلى قاطرة تجذب الاقتصاد ككل.
لكن المشكلة، التي تواجه تلك الاستراتيجية أن المساعدات الحكومية ليس بالضرورة أن توجه لقطاعات كثيفة الاستخدام للأيدي العاملة، بل في الواقع ستمنح غالبا للقطاعات الاقتصادية كثيفة رأس المال، التي تعتمد على التكنولوجيا المفرطة والذكاء الصناعي، ويعني عدم تقديم المساندة المالية للقطاعات، التي تستخدم كثيرا من الأيدي العاملة، أو الشركات الصغيرة، التي لا يمكنها اجتياز الوضع الراهن دون مساندة حكومية، زيادة معدلات البطالة، وانخفاض الطلب الاستهلاكي العام، وما ينجم عنه من تراجع معدل النمو.
في مقابل استراتيجية "تحويل المساعدات" تتبنى مجموعة أخرى من الخبراء رؤية تنادي بإعادة النظر في تفاصيل سياسة الإنفاق العام ككل، سواء في الاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو، فالبلدان التي لديها قدرة على تحفيز اقتصاداتها مثل ألمانيا وهولندا لم تفعل من وجهة نظرها سوى القليل، بينما كانت سياسة التحفيز في بلدان أخرى مثل إسبانيا سيئة التصميم، وانصب اهتمام الإيطاليين على تحقيق التوازن المالي.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الخبير الاستثماري دانيال جرانت، "هناك مشكلات جوهرية تتعلق بالعلاقة بين الاستثمار العام والخاص في الاتحاد الأوروبي، فدول الاتحاد ذات الدخل المتوسط تراجعت فيها معدلات الاستثمار 14 في المائة بين عامي 2002 و2018، وفي دولة مثل ألمانيا تراجعت الاستثمارات الثابتة العامة والخاصة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي لعقود، على الرغم من الفائض المالي الهائل لديها، ونتيجة ذلك عندما تفشى وباء كورونا في أوروبا لم يكن الاقتصاد مستعدا لمواجهته".
ويضيف، "بلدان الاتحاد الأوروبي حتى المملكة المتحدة وعلى الرغم من خروجها من الاتحاد الأوروبي، في حاجة إلى تحويل المساعدات، التي تقدم للقطاع الخاص للتعامل مع تداعيات وباء كورونا إلى خطة شاملة للاستثمار في البنية التحتية، فقبل تفشي الوباء في مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي كان الاستثمار في البنية التحتية عند أدنى مستوى له منذ 15 عاما".
تلك الدعوة بتحويل المساعدات المالية المقدمة من حكومات الاتحاد للشركات الخاصة إلى جزء من خطة عامة للإنفاق على البنية الأساسية، تضمن من وجهة نظر الداعين إليها زيادة معدلات التوظيف، وإيجاد نظرة إيجابية للاقتصاد بسبب الطلب القوي الناجم عن انخفاض معدلات البطالة، كما أنها تساعد على إيجاد أجواء من الارتياح المجتمعي نتيجة الابتعاد عن تدابير التقشف المالي.
على أي حال لا يزال الجدل قائما في بلدان الاتحاد ومنطقة اليورو حول الاتجاه العام، الذي يجب أن تسلكه في المرحلة المقبلة، وربما تشهد الفترة المقبلة جدلا أكثر حدة وقسوة بشأن كيفية العودة إلى المسار الاقتصادي الطبيعي. وحتى تصل بلدان الاتحاد إلى اتفاق بهذا الشأن، فالمؤكد أن مواصلة تقديم المساعدات الاقتصادية لمجتمعاتها لتتمكن من التعامل مع التداعيات الاقتصادية السلبية لوباء كورونا ستستمر.