3 تريليونات دولار ديون طلابية أمريكية بنهاية العقد .. نمو ينذر بتداعيات اقتصادية سلبية
ينشغل عالم اليوم بأزمة وباء كورونا وما ألحقته بالاقتصادات الوطنية والاقتصاد العالمي من خسائر وأضرار، وضمن ما ينشغل به العالم حاليا في تلك الأزمة قضية الديون الدولية المتراكمة على البلدان، وهل سيكون بمقدورها سدادها يوما ما، خاصة البلدان النامية أو الفقيرة؟
لكن وسط تلك الانشغالات وعلى أهميتها وخطورتها، لا تكثف وسائل الإعلام الضوء الكافي على بعض القضايا الخطيرة ذات التداعيات الكارثية المستقبلية على الاقتصاد والأشخاص، من أبرزها في الوقت الحالي قضايا الديون الطلابية لتمويل التعليم في الاقتصادات المتقدمة.
وفكرة إلغاء ديون الطلاب ظلت فكرة هامشية ومستبعدة في أغلب الاقتصادات الرأسمالية الكبرى التي تتبنى هذا النمط من التمويل لدفع تكلفة العملية التعليمية في المستوى الجامعي، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، ولكن مع تزايد القروض أصبحت الفكرة تجد لها مزيدا من الأنصار ليس بين الطلاب فقط، بل بين الباحثين وبعض صناع القرار الاقتصادي.
وفي الولايات المتحدة أعفت وزارة التعليم في آذار (مارس) الماضي بعض الطلاب من الديون واجبة السداد، وألغت الديون بالكامل على المقترضين بعد أن ثبت للمسؤولين أن جامعتهم ضللتهم بشأن أشياء، كالتكلفة الفعلية للعملية التعليمية وفرص العمل المتاحة في أعقاب ذلك.
تلك الخطوة تأتي ضمن سلسلة من الخطوات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لمعالجة الديون الطلابية المتزايدة السرعة في الولايات المتحدة، التي بلغت 1.7 تريليون دولار العام الماضي.
ولربما تكون النقطة الإيجابية في الوقت الراهن أن إدارة الرئيس بايدن تتعرض لضغوط من أعضاء كبار في الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس للقيام بالمزيد في هذا الاتجاه، إلا أن هذا لا يعني أن سياسة إلغاء الديون الطلابية تحظى بترحيب الجميع، فعديد من أعضاء الحزب الجمهوري لا يرحبون بها.
من ناحيتها، قالت لـ «الاقتصادية» الدكتورة ستفني هانتر، أستاذة الاقتصاد الأمريكي في جامعة كوين ماري، إن "تلك الخطوة إن اكتملت فستحدث تغيرا جذريا فيما يتعلق بمفهوم القروض التعليمية، وهذا سيعيد تشكيل أنماط تمويل التعليم في الولايات المتحدة، ويفتح المجال لقطاعات أوسع، خاصة من الفئات الفقيرة والمتوسطة في الأقليات، للالتحاق بالتعليم الجامعي، بما سيؤدي إلى إعادة تشكيل المجتمع ككل سياسيا واقتصاديا على الأمد الطويل".
وتستدرك قائلة "ديون القروض الطلابية وصلت إلى مستويات فلكية في الولايات المتحدة، حيث يحمل 43 مليون أمريكي ما يقدر بنحو 1.5 تريليون دولار من ديون الطلاب على شكل قرض اتحادي وأقل قليلا من 200 مليار دولار قروض طلاب خاصة أغلبها من البنوك".
من هذا المنطلق، فإن الدعوة المتصاعدة الآن من قبل قادة الحزب الديمقراطي وعديد من القيادات الطلابية ومطالبتهم للرئيس باستخدام سلطته لإلغاء ديون المقترضين التي تصل إلى 50 ألف دولار، ستؤدي إن استجاب لها البيت الأبيض، إلى إلغاء الديون بالكامل لأكثر من 34 مليون شخص.
لكن تكلفة مثل هذا القرار قد تصل إلى أكثر من تريليون دولار، أي تقريبا المبلغ نفسه الذي أنفقته الإدارات الأمريكية على المساعدة السكانية على مدى عقدين من الزمن، فهل يتحمل فعلا الاقتصاد الأمريكي الإقدام على تلك الخطوة.
ويرفض الرئيس بايدن حتى الآن على الأقل إلغاء الديون التي تصل إلى 50 ألف دولار، معتبرا أن إعفاء ما يصل إلى عشرة آلاف دولار من الديون سيؤثر في نحو ربع الديون المستحقة أي أكثر من 400 مليار دولار ويزيل الأعباء تماما عن 15 مليون شخص وهذا أمر كاف في المرحلة الراهنة .
ويصف ديميس تومسون الاستشاري السابق في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" المشهد الراهن لمعضلة القروض الطلابية في الولايات المتحدة بالقول "القضية هناك باتت شديدة التعقيد يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي معا، فهناك 42 مليون شخص في الولايات المتحدة أي نحو واحد من كل ستة بالغين عليهم ديون طلابية، ويبلغ متوسطها نحو 30 ألف دولار لكل شهادة جامعية مدتها أربعة أعوام فقط، وتضع تلك الديون ضغوطا شهرية على كل خريج جديد بنحو 400 دولار شهريا".
وأضاف تومسون "خمس المقترضين في الولايات المتحدة في حالة تخلف عن السداد وملايين آخرين متأخرين في السداد، وتلك الديون تستحق بعد فترة وجيزة من التخرج بغض النظر عن الوظيفة أو الدخل، ووفقا للتقديرات الرسمية فإن الحكومة تمتلك أكثر من 90 في المائة من الديون الطلابية وإن ما يقرب من ثلث تلك الديون لن يتم سداده".
وفي الحقيقة، فإن الأزمة بدأت تحتل اهتمام متزايد في الولايات المتحدة بسبب ارتفاع أعداد المقترضين للمتخلفين عن السداد. ففي الربع الأخير من عام 2019 كان 11.1 في المائة من مقترضي القروض الطلابية متأخرين عن سداد قروضهم لمدة 90 يوما أو أكثر.
على الرغم من هذا المشهد فإن البعض لا يزال يتحجج بأن عملية إلغاء ديون الطلاب في الولايات المتحدة "غير عادلة" وربما تكون لها أضرار اقتصادية، حتى إن كانت الحكومة تعلم أن ثلث الطلاب الحاصلين على قروض تعليمية لن يكونوا قادرين على سدادها على أرض الواقع.
من جانبه، قال لـ «الاقتصادية» الخبير المصرفي دانيال ام . ميشيل إن "تقريبا ثلث الطلاب الأمريكيين يذهبون إلى الجامعة، لكن لا يكون من العدل أن يدفع ثلثا المواطنين الأمريكيين الذين لا يذهبون للجامعة فاتورة التعليم الجامعي للثلث الذي يذهب إلى الجامعة".
وأضاف ميشيل "ثانيا إذا كان 90 في المائة من تلك القروض التعليمية من الحكومة، فإن إلغاءها يعني زيادة الدين الداخلي العام، وهذا له تداعيات سلبية على الأداء الاقتصادي، خاصة أن تلك الديون تنمو بمعدل سنوي 7 في المائة، ومن ثم يتوقع أن تصل إلى ثلاثة تريليونات دولار أو أكثر بنهاية هذا العقد، فديون القروض الطلابية في الولايات المتحدة تتجاوز قروض السيارات حتى ديون البطاقات الائتمانية".
وتابع "البعض يتذرع بأن الإدارات الأمريكية المختلفة والكونجرس قدموا كثيرا من حزم الإنقاذ للشركات الأمريكية، ومن الأجدر أن يقدموا حزما مماثلة للطلاب، لكن هذا المنطق لا يأخذ في الحسبان أن عدم تقديم تلك الحزم للشركات الأمريكية يعني انهيارا تاما للاقتصاد الأمريكي، بينما لا ينطبق ذلك على القروض التعليمية".
إلا أن تلك النظرة لا تأخذ في الحسبان ما يشير إليه البعض بالتأثير السلبي للديون الطلابية على الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة، فسداد ديون التعليم الجامعي يعوق عديدا من الخريجين على امتلاك منزله الخاص، وتأخر ذلك بنحو سبعة أعوام، وهذا يحد من انتعاش القطاع العقاري، ويؤدي إلى انخفاض الأسعار مقارنة بما يمكن أن يكون عليه الوضع إذا زاد الطلب على الوحدات السكانية، كما يتردد الكثير من الخريجين الجدد على استخدام البطاقات الائتمانية واستخدامها بحرص شديد في عمليات الإنفاق نتيجة الضغوط الناجمة عن سداد القروض الطلابية.
ويطرح البعض أشكالا أخرى للحل من خلال تقييم مختلف للمشكلة، إذ يعد ربنسون دال الخبير التعليمي البريطاني أن مشكلة القروض التعليمية في الولايات المتحدة تتشابه في جذورها مع مشكلة التعليم في جميع الدول الرأسمالية التي تتبنى هذا النمط من التمويل التعليمي.
وقال دال لـ« الاقتصادية» إن "المشكلة الأكبر والمصدر الأساسي لأزمة القروض الطلابية هي التكلفة العالية للالتحاق بالكلية والتكلفة المتزايدة للالتحاق بالكلية تتجاوز معدل التضخم، ومن ثم فالحصول على شهادة جامعية أمر بعيد المنال بالنسبة إلى كثير من العائلات الأمريكية المتوسطة فضلا عن العائلات الفقيرة، ومن ثم بدلا من إلغاء القروض التعليمية فإنه يمكن البحث عن وسيلة لخفض تكلفة الجامعة أو حتى إبطاء معدل الزيادات السنوية للمصروفات الجامعية".
وفي الواقع، فإن جذور ارتفاع تكاليف الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة وعديد من البلدان الأخرى يعود إلى التقليص المتواصل في دعم الدولة وتراجع الاستثمار العام في التعليم العالي في الولايات المتحدة منذ عام 1980 تقريبا، ووفقا للمجلس الأمريكي للتعليم، تم خفض التمويل والإعانات الحكومية بأكثر من سبعة مليارات دولار بين عامي 2008 و2018، وقد أسهم الإفراط في خصخصة التعليم في الولايات المتحدة إلى تحويل معظم الحصة التي تسهم بها كل ولاية في تكاليف التعليم إلى الطلاب وأسرهم.
بدوره، تنظر الدكتورة فلورنس ستوبس أستاذة علم الاقتصاد الاجتماعي في جامعة لندن إلى القضية من منظور مختلف، يركز أكثر على التأثير الناجم عن تلك المشكلة فيما يتعلق بالمساوة المجتمعية بين الجنسين.
وقالت ستوبس لـ «الاقتصادية» إن "النساء يشعرن بألم ديون القروض الطلابية أكثر من الرجال، فوفقا لتحليل أجرته الرابطة الأمريكية للجامعات تمتلك النساء ما يقرب من ثلثي ديون قروض الطلاب في الولايات المتحدة، وهذا في حد ذاته ليس مشكلة، ولكن الأزمة تظهر بعد التخرج والحصول على وظيفة".
وأضافت "غالبا تمنع فجوة الأجور بين الجنسين تمتع النساء من تحقيق التقدم في سداد قروضهن مثل الرجال، فالنساء في الولايات المتحدة اللائي يعملن بدوام كامل يكسبن ما يقرب من 82 في المائة مما يتقاضاه الرجال، وفي غضون الأعوام الأربعة الأولى بعد التخرج يسدد الرجال في المتوسط 38 في المائة من ديونهم المستحقة بينما تسدد النساء 31 في المائة".
وأشارت ستوبس إلى أن هذا التباطؤ يؤدي في السداد إلى زيادة الصعوبات المالية للنساء على الأمد الطويل، عندما نتحدث عن مدخرات التقاعد، فالرجال في الولايات المتحدة يتقاعدون ولديهم مدخرات تقاعدية تقدر في المتوسط بـ76 ألف دولار، أما النساء فلديهن 23 ألف دولار فقط.
على أي حال يبدو أن هناك إدراكا متزايدا للمخاطر الناجمة عن الأرقام الفلكية التي بلغتها القروض الطلابية، وباتت القضية بالفعل مقلقة للإدارة الأمريكية، وتحتل مكانة لا بأس بها حاليا على جدول أعمالها، لكن المؤكد أيضا أنه لا يوجد حل واضح في الأفق.
وبين إلغاء تلك القروض أو خفض تكلفة العملية التعليمية خاصة الجامعية، يتأرجح القرار الأمريكي، إلا أن المؤشرات تكشف أن تلك القضية لا بد أن تجد حلا في الأعوام المقبلة، وإلا فإن تداعياتها على الاقتصاد والمجتمع الأمريكي ستكون شديدة السلبية.