«عروس الطائفين» .. وكم من ضعيف كان يرى الموت عيانا دونها

«عروس الطائفين» .. وكم من ضعيف كان يرى الموت عيانا دونها
من أمتع الكتب في أدب الرحلات.
«عروس الطائفين» .. وكم من ضعيف كان يرى الموت عيانا دونها
نقل الحجاج من الرحالة مشاهداتهم والمواقف التي مروا بها.
«عروس الطائفين» .. وكم من ضعيف كان يرى الموت عيانا دونها
لحظة المغادرة من ميناء جدة إلى مكة المكرمة.
«عروس الطائفين» .. وكم من ضعيف كان يرى الموت عيانا دونها
"محفوفة بوفود الرحمن، موصلة إلى جنة الرضوان"

استأثرت رحلة الحج بنصيب وافر من كتب الرحالة المسلمين، الذين قطعوا عباب المحيطات والصحاري القاحلة لأداء مناسكهم، وتجاوزوا الوديان والجبال والمصاعب طلبا للأجر، لتصبح رحلاتهم وحكاياتهم جزءا من التراث الأدبي.
نقل الحجاج من الرحالة مشاهداتهم والمواقف التي مروا بها، وفي دقة الوصف والبلاغة وجد القارئ فيض عاطفتهم وقد ضاقت به الصفحات، وكأنه كان حاضرا معهم في ذلك الموقف المهيب، الذي نستحضره هذه الأيام، لاقتراب موعد الحج. "الاقتصادية" تتجول في كتب الرحالة في أزمنة مختلفة، وتنقل مشاهد أهم الرحلات وأجمل الأوصاف من كتبهم ومخطوطاتهم.

ابن بطوطة والعروس

حين وقف ابن بطوطة الرحالة المغربي الشهير أمام الكعبة المشرفة للمرة الأولى، خط بقلمه أجمل الأوصاف، ونقل للملايين ممن قرأوا كتبه تفاصيل طوافه بالكعبة وحج عام 1326م، وفي وصفه الجميل الذي يصل إلى القلوب يتحدث عن أقدس بقعة في الأرض، ويقول الشاب في ربيع عمره "وشاهدنا الكعبة الشريفة، زادها الله تعظيما، وهي كالعروس تتجلى على منصة الجلال، وترفل في برود الجمال، محفوفة بوفود الرحمن، موصلة إلى جنة الرضوان".
أما رحلة السعي بين الصفا والمروة فوصف عجائبها بتعليقه "ومن عجائب صنع الله تعالى أنه طبع القلوب على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة، والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة، وجعل حبها متمكنا في القلوب فلا يحلها أحد إلا أخذت بمجامع قلبه ولا يفارقها إلا أسفا لفراقها، متولها لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناويا تكرار الوفادة عليها، فأرضها المباركة نصب الأعين، ومحبتها حشو القلوب حكمة من الله بالغة، وتصديقا لدعوة خليله، عليه السلام، والشوق يحضرها وهي نائية، ويمثلها وهي غائبة، ويهون على قاصدها ما يلقاه من المشاق ويعانيه من العناء، وكم من ضعيف يرى الموت عيانا دونها، ويشاهد التلف في طريقها، فإذا جمع الله بها شمله تلقاها مسرورا مستبشرا كأنه لم يذق لها مرارة".

في حب المليحة الحسناء

ومن ابن بطوطة أمير الرحالين المسلمين، إلى رحلة ابن جبير الأندلسي أواخر القرن السادس الهجري، وكانت مليئة بالسرد اللغوي الفريد، دونها في كتاب "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"، متطرقا إلى أخطار بلوغ مكة المكرمة في ذلك الوقت، حيث دون التجربة "والركوب إليها من جدة آفة للحجاج عظيمة إلا الأقل منهم ممن يسلمه الله، عز وجل، وذلك أن الرياح تلقيهم على الأكثر في مراس في صحارى تبعد منها مما يلي الجنوب، وربما كان من الحجاج من يتعسف تلك المجهلة على قدميه، فيضل ويهلك عطشا، شاهدنا منهم مدة مقامنا أقواما قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة، وهيئاتهم المتغيرة".
ومما يزيد الرحلة متعة، هو الوصف الجمالي لابن جبير، فيقول تارة "فألفينا الكعبة الحرام عروسا مجلوة مزفوفة إلى جنة الرضوان محفوفة بوفود الرحمن، فطفنا طواف القدوم، ثم صلينا في المقام الكريم، ودخلنا قبة زمزم وشربنا من مائها، وهو لما شرب له، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم"، وفي ركن الوقوف بعرفات يقول "والقبلة في عرفات هي إلى مغرب الشمس، لأن الكعبة المقدسة في تلك الجهة منها، فأصبح يوم الجمعة المذكورة في عرفات جمعا لا شبيه له إلا الحشر، لكنه إن شاء الله تعالى حشر للثواب، مبشر بالرحمة والمغفرة يوم الحشر للحساب، وزعم المحققون من الأشياخ المجاورين أنهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعا أحفل منه.. فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين، وإلى الله - عز وجل - في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع، فما رؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوبا خواشع، ولا أعناقا لهيبة الله خوانع من ذلك اليوم".
ولم يكن ابن بطوطة وابن جبير وحدهما من وصفا الكعبة بـ"العروس"، فقد تلاهما كثير من الرحالة المسلمين الذين وصفوها شعرا ونثرا، مثل خالد بن عيسى البلوي في القرن الثامن الهجري، والعلمي الوزاني ابن حسون في حج عام 1269هـ، ورحالة آخرون وصفوها بالعروس التي يزفها الطائفون، فيما وصفها ابن مليح القيسي في القرن الـ11 الهجري بـ"المليحة الحسناء".

12 ليلة

معاناة رحلة الحج في عام 1923م وثقها الحاج عبدالماجد زين الدين، ضابط شؤون الحجاج الملايويين في الربع الأول من القرن الـ20، ووصف ما يعتري تلك الفترة من أمراض وخوف، وفوضى في تنظيم إدارة الحج، وطول السفر ما بين مدينة جدة حيث الميناء، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة.
وقال الحاج زين الدين في قصته "إن رحلة الحج في ذلك العهد تبدأ من لحظة المغادرة من ميناء جدة إلى مكة المكرمة في رحلة عن طريق قوافل الإبل، ويوضع على ظهر كل جمل سرج خشبي محشو بسعف النخيل يعرف بـ"الشقدف" حتى يمكنه حمل حاجين على الجهتين، لتستمر الرحلة إلى مكان يعرف باسم "بحرة" يقضي فيه الحجاج راحتهم في طريقهم إلى مكة المكرمة".
ووفقا لما وثقته موسوعة الحج والحرمين الشريفين التابعة لدارة الملك عبدالعزيز، فإن رحلة الحج كما وثقها زين الدين كانت تستغرق 12 ليلة، تمر بعشرة مواقف مختلفة، هي: وادي فاطمة، عسفان، سرف، القديد، رابغ، مستورة، بئر الشيخ، بئر حسن، بئر خريص، وبئر درويش.

ياباني في مكة

من أمتع الكتب في أدب الرحلات التي تناولت رحلة الحج، كتاب "ياباني في مكة"، للحاج تاكيشي سوزوكي، أو الملقب باسم محمد صالح، أحد الرحالة الذين زاروا المملكة وأعجبوا بالملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، ويعطينا فكرة عن شخصية الياباني المسلم، الذي دون مذكراته بعد أدائه مناسك الحج للمرة الثالثة في عام 1938.
ويمضي في وصفه "كنا ذاهبين إلى الأماكن المقدسة، ومنذ نحو 1350 عاما أدى محمد - صلى الله عليه وسلم - شعائر الحج، ونحن الآن نمضي على سنته، ونفعل ما فعل، ونرتدي الملابس نفسها التي كان يرتديها، ونردد الدعاء نفسه الذي كان يردده، ونسلك الدروب التي سلكها، وهكذا نصبح صدى للصوت الذي يتردد منذ 1350 عاما مضت.. شعور يكتنفه الغموض، سر من الأسرار لا يعلمه إلا الله، ربما جعل جمال سماء ليالي جزيرة العرب الغموض يشملنا جميعا في تلك اللحظات".
ويتحدث الحاج تاكيشي عن صعوبة الحج آنذاك، إذ يقول "الحج إلى مكة ليس بالأمر السهل، فمن ليس لديهم خبرة بالحياة في الصحراء لا يمكنهم أن يتخيلوا هذا الأمر، والحجاج المسلمون عليهم القيام بأداء مناسك الحج كل عام، وحتى تتضح صعوبة هذا الأمر، قديما كان 20 في المائة من الحجاج يموتون في موسم الحج، ومعظمهم من دول جنوبي شرقي آسيا، الذين يأتون للحج، ويتوقعون الموت أثناء أداء مناسك الحج، ونحن أيضا شعرنا بأنه ربما لا نعود إلى بلدنا مرة ثانية".

الأكثر قراءة