70 % من المدن العالمية الكبرى تعاني من الإجهاد المائي .. الضغوط البيئية تعرقل التنمية
خلال العقود الثلاثة المقبلة سيتضخم ويزداد تعداد سكان العالم القاطنين في المناطق الحضرية، حيث يتوقع أن يصل إلى ما يقرب من سبعة مليارات نسمة، أي أكثر من ثلثي سكان الكرة الأرضية في ذلك الحين.
مع هذا ستواجه الإقامة في المدن تحديات متعددة بسبب تغير المناخ، والطقس غير المستقر، كما ستواجه معظم المدن الكبرى تحديا حقيقيا مع زيادة الإجهاد الذي تتعرض له الموارد المائية، بل إن بعض مصادر المياه في العالم بدأ بالفعل في النضوب.
في 2018 كانت مدينة كيب تاون في جنوب إفريقيا على وشك أن تكون أول مدينة عالمية كبرى تصل إلى الوضع الذي سيتم فيه إغلاق صنابير المياه، بسبب الجفاف والطلب المرتفع على المياه وعدم كفاية المتاح منها.
إسطنبول ومكسيكو سيتي وشنغهاي من أبرز المدن التي واجهت أزمات مائية أخيرا، وتشير تقارير دولية إلى أن واحدة من كل أربع مدن تمثل أكثر من أربعة تريليونات دولار من النشاط الاقتصادي تعاني بالفعل الإجهاد المائي، وهذا الوضع ينطبق على 70 في المائة من المدن الكبرى في العالم.
في عام 2015 تعهدت جميع دول العالم بالعمل من أجل الوصول بشكل شامل إلى مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي والمرافق الأساسية لغسل اليدين، على أن يتم ذلك بحلول 2030.
لكن حتى الآن لا تزال البشرية بعيدة عن تحقيق هذا، فنحو 26 في المائة من البشر لا يحصلون على مياه شرب نظيفة، وما يقرب من النصف بدون صرف صحي آمن، والثلث بدون صابون وماء أساسيين، فالتقدم إذن بطيء جدا، ويجب أن يكون المجتمع الدولي أسرع بثلاث مرات إذا أراد تحقيق أهدافه بحلول نهاية هذا العقد، أما إذا واصلنا المسير بالسرعة الراهنة فسنصل فقط إلى 82 في المائة من الأهداف.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور إيان بيرن أستاذ جغرافية المدن في جامعة كامبريدج، "في الوقت الحالي هناك 354 مدينة في العالم يبلغ فيها متوسط درجة الحرارة في فصل الصيف 35 درجة مئوية، هذا العدد سيرتفع إلى 970 مدينة بحلول منتصف القرن، ستؤثر موجات الحر تلك في أكثر من 1.6 مليار من سكان المدن في العالم، فإذا أخذنا طبيعة البناء الخرساني في المدن، الذي يؤدي إلى حبس الحرارة، إضافة إلى أن كل شهر هناك خمسة ملايين فرد يهاجرون إلى المراكز الحضرية حول العالم، وأغلبهم في الدول النامية، فإن هذا يعني مزيدا من الطلب على المياه وتلوثها في الوقت ذاته".
ويضيف "هذا بالطبع يضع ضغطا متزايدا على معالجة مياه الصرف الصحي وكذلك على المرافق والأنظمة المائية والنهرية في تلك المدن، أخذا في الحسبان أن أكثر من 80 في المائة من مياه الصرف الصحي في العالم، يتم التخلص منها بدون معالجة، وتبلغ النسبة 62 في المائة في الدول التي تنتمي إلى الشريحة العليا من دول الدخل المتوسط، و72 في المائة في الدول ذات الدخل المتوسط وبنسبة 92 في المائة في الدول منخفضة الدخل، هذا الضغط على النظام البيئي يبعدنا أكثر فأكثر عن التنمية المستدامة".
لكن أزمة المياه تلك لا تقف عند حدود عجز المجتمع الدولي في الإيفاء بتعهداته، فهناك 785 مليون شخص في العالم يفتقرون إلى المياه الصالحة للشرب، وغالبا ما تكلف النساء عموما بجمع المياه ويقضون ساعات طويلة في هذا الأمر، وربما يقومون بهذا الأمر عدة مرات يوميا. ويقدر عديد من الدراسات أن خسائر الاقتصاد العالمي من الوقت المهدر في البحث عن المياه تقدر بنحو 200 مليار دولار على مستوى العالم سنويا، بينما سيؤدي تحسين الوصول إلى المياه والصرف الصحي الملائم إلى تقليل الميزانيات الموجهة إلى الرعاية الصحية بما يقدر بنحو 18.5 مليار دولار كل عام نتيجة تجنب الوفيات الناجمة عن إصابة الأطفال الصغار بأمراض ناجمة عن تلوث المياه.
وقدر البنك الدولي أن كل دولار يستثمر في المياه والصرف الصحي يوفر عائدا اقتصاديا قدره أربعة دولارات من انخفاض التكلفة الصحية وزيادة الإنتاجية وتقليل الوفيات المبكرة.
يشير المهندس تشارلز زيلز الخبير في مجال ترشيد المياه إلى أن حل مشكلة المياه في المدن الحضرية سيحول دون تعرضها لصدمات مستقبلية نتيجة التغيرات المناخية، وهو ما يدفعه إلى المناداة بإعادة تصميم المدن لجعلها أكثر اخضرارا.
ويعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "أكبر 50 اقتصادا في العالم تعهدت بإنفاق مبلغ 14.6 تريليون دولار، لتدابير التعافي طويلة الأمد، من بينها 341 مليار دولار مخصصة للمبادرات الخضراء، والتمويل الأخضر دخل مرحلة جديدة من خلال التجارة في السندات الخضراء لتي جمعت مبلغ 2.3 تريليون دولار، ومن ثم إعادة التفكير في البنية التحتية للمياه يجب أن تكون في طليعة تلك الاهتمامات، لأن ذلك سيلعب دورا حيويا في إيجاد مشهد أكثر استدامة للمدن".
ويضيف "إغلاق حلقة القصور المائي في المدن، سيعتمد على تقليل النفايات من المياه سواء في الشرب أو الصرف الصحي أو الري أو في التدفئة والتبريد".
من هنا بات ما يعرف بالاقتصاد الدائري يمتلك القدرة على الحد من استهلاك المياه، بما يسمح بتحسين نوعية الحياه والرفاهية البشرية لسكان المدن.
وهو ما يدفع الدكتورة نينا كاروال أستاذة التنمية الاقتصادية في جامعة ليدز إلى التعليق لـ"الاقتصادية" بالقول، "توظف صناعة إعادة التدوير أكثر من 1.5 مليون شخص حول العالم، لكن عملية الدمج بين صناعة إعادة التدوير والمدن الحديثة ستتطلب فترة زمنية طويلة واستثمارات ضخمة للغاية، فلا يمكن للمدن خاصة المدن التاريخية القديمة أن تحقق عملية استدارة كاملة بين عشية وضحاها، لكن بعض المناطق الحضرية بدأت في إحراز تقدم في هذا الشأن، ولا يزال قبول كثير من المجتمعات بالشرب من مياه تمت إعادة تدويرها تحديا تنمويا كبيرا، حيث يعوق عديد من الأعراف الاجتماعية استخدام تلك المياه، في الوقت ذاته يتجنب كثير من شركات الأغذية والمشروبات استخدام المياه المعاد تدويرها".
لهذا ينادي عدد كبير من الخبراء بأن تتضمن المدن الحديثة إعفاءات ضريبية للمناطق التي تستهلك كميات أكبر من المياه المعاد تدويرها، وكذلك المؤسسات الصناعية التي تستخدم تلك المياه في العملية الإنتاجية، إذ إن طريقة استخدام البشر للمياه يجب أن تتغير، لضمان استمرار الحياة بشكل لائق في المدن الحديثة.