الاستثمار ليس إدارة الأعمال
كثيرا ما يخلط الناس بين الاستثمار وبين الأعمال "سواء كانت تجارية أم صناعية أم حتى زراعية"، وقد كتبت في هذا مقالا سابقا، وأعيده بمعناه الآن، فكثير من الناس يمتلك مالا، ولديه أرصدة في البنك، مع ذلك يقف حائرا لأن هذه الأموال لا تنتج شيئا يستطيع استهلاكه، وإذا استهلكه تناقصت.
والحقيقة، كما أشرت في المقال السابق، أن الثروة شيء مختلف اقتصاديا عن الدخل، فالدخل هو ما نستطيع استهلاكه مع بقاء الثروة كما هي. هذا المفهوم مهم جدا، يجب عليك عزيزي القارئ عدم تجاوز هذا ما لم تكن متأكدا من فهمه جيدا، "لا فائدة من ثروة لا تنتج دخلا"، ومع الأسف، فإن كل من يدخل عالم التجارة أو الصناعة والاستثمار، وكل المبادرين لا يقفون عند هذه المفاهيم واستيعابها بشكل كاف، ولذلك يقعون بسهولة في الأخطاء القاتلة.
إذا كان لديك مبلغ 100 ألف ريال في البنك، هل هذا يمثل ثروة؟ "نعم"، هل يمثل دخلا؟ "لا". أنت أمام خيارات عدة، منها الاحتفاظ بها، والصرف منها حتى تنتهي يوما ما، وإذا لم تصرف شيئا، فلا فائدة منها في حياتك، لكنها قد تكون دخلا لغيرك، مثل المساكين والفقراء عند دفع الزكاة المستحقة عليها، أو عندما تنتقل للورثة، لذلك قال الشاعر "ما زاد فوق الزاد خلف ضائع .. في حادث أو وارث أوعار". وإذا كنت تريد زيادة إنتاج الدخل أو زيادة حجم الثروة، فلا بد أن تقرر بين أمرين، أن تكون مستثمرا أو رجل أعمال، "رجل أعمال هنا تعني عندي الدخول شخصيا في إدارة نشاط تجاري أو صناعي أو زراعي". هكذا يتضح أن الاستثمار يعني "عدم" الدخول والمشاركة في إدارة الأعمال، إنما فقط منح الأموال أو الثروة عموما مهما كانت أشكالها، لمن يديرها ويعطي لك دخلا.
وهنا أحذر، "إذا لم تكن تعرف شيئا في إدارة الأعمال، فلا تدخل في إدارة نشاط بنفسك"، ولا تقل إنني مبادر أو صاحب مبادرة. ولعلي هنا أعلق الجرس على أعناق مراكز وحاضنات الأعمال التي تورط الشباب في مبادرات وأفكار، بينما هؤلاء الشباب غير مؤهلين ولا قادرين على إدارة الأعمال، ولم يستوعبوا الفرق بين إدارة الأعمال وبين الاستثمار، وقد حذرت من هذا مرارا.
الفرق بين الأعمال بأنواعها كافة وبين الاستثمار، فرق كبير، فالمستثمر يقدم في العادة رأس المال أو بعض وسائل الإنتاج، ولا يتدخل في آليات استخدام هذه الأموال، بل يراقب ويتأكد من حسن استخدامها، ومن تعظيم الدخل الناتج عنها، ولذلك فإن المستثمر الحصيف هو الذي يقيم الإدارة، خاصة نزاهة الإدارة وسمعتها، وليس من يعطي الأموال ويهبها دون فحص أو لمجرد وعد بالأرباح العظيمة، كما أن المستثمر الحريص هو الذي يستطيع المقارنة بين العوائد في جميع الأسواق والقطاعات، ويدرك بشكل دقيق حجم الأموال التي لديه وأفضل عائد يمكن تقديمه في كل قطاع، وأفضل إدارة تستخدم الأموال، فالمستثمر معني فقط بتقييم الإدارة، معني فقط بتعين وعزل المديرين، ومعني فقط بتقييم العوائد، فهو يكافئ الإدارة المميزة بمنحها الأموال التي تستطيع من خلالها تحقيق الاستدامة للأعمال، كما يعاقب الإدارة الفاشلة من خلال سحب استثماراته، وبالتالي تفقد أعمالها ووظائفها. هكذا هي الرأسمالية، وهكذا تعمل، لا رحمة ولا مجاملات، والرحمة هنا تعد خطأ، والمجاملات هي نوع من الموت البطيء. المستثمر الحريص يفهم لغة التقارير جيدا، ويراقب الأسواق والاقتصاد الكلي، ويتمتع بنظرة ثاقبة وحنكة وحكمة.
في المقابل، هناك من يمارس الأنشطة دون معرفة كافية بإدارة الأعمال، خاصة فيما يتعلق بالموازنات والتسعير، والمحاسبة وإدارة المخزون، وغيرها كثير، لذا فإن إدارة الأعمال علم يزداد تعقيدا مع مفاهيم مثل الحوكمة والمخاطر والامتثال، والأهم هو القدرة العالية على إدارة النقدية، والامتثال الضريبي. كل هذه القضايا، وغيرها، يجب أن تكون أساسية في مدير الأعمال، ولا بد فوق هذا وذاك أن يكون محبا حبا جما للمال، من لا يعشق المال بشكل يفوق أي عشق آخر، فلا يمارس إدارة الأعمال، وليعطي الأموال لمن يعشقها. ولقد واجهت كثيرا من الشباب يعشق عمله، ولديه قدرة على الإبداع، وهو وفق هذا وذاك يفهم كثيرا في الصناعة التي يعمل فيها، ويظن أنه بهذا العشق للعمل قادر على إدارة الأعمال، وهيهات كم من شاب خسر أمواله بسبب عشقه للعمل، وأبدع حتى سبق عصره، لكنه لم يعشق المال الذي صرفه أكثر من عشقه لعمله. مثل هذا قد يصبح موظفا عبقريا، وعالما فذا، ومدربا لا يشق له غبار، لكن ليس رجل أعمال، لأن أهم ميزة في رجل الأعمال عشقه للمال، عشق يجعله يسهر الليل، لأن أسعار الفائدة تغيرت بنصف نقطة.
إذا اتفقت معي عزيز القارئ، فإن كثيرا من الأشخاص في وسائل التواصل الاجتماعي يسألون عن الاستثمار، وتأتي الإجابة عن إدارة الأعمال، بينما أتساءل، هل يقصد السائل هذا أم يعرف المجيب بم أجاب؟ والسؤال الأكثر خطورة هو، إذا لم أكن هذا ولا ذاك، لا أعرف في مهارات الاستثمار ولست من رجال الأعمال، فماذا أفعل؟ أتمنى من القراء الإجابة عن هذا السؤال، وسأحاول الإجابة عنه مستقبلا.