حقن مالي أمريكي غير مسبوق يحول «الفيدرالي» إلى آلة طائشة لطبع النقود
من أكثر الأسئلة مدعاة للقلق في الاقتصاد العالمي التساؤل عن مستقبل الدولار الأمريكي. هل يمكن لسيد العملات الذي هيمن لنحو ثمانية عقود متواصلة على ساحة الاقتصاد الدولي بلا منازع أن ينهار؟، وإذا حدث ذلك، فما التداعيات على الاقتصاد العالمي؟ وما البدائل المطروحة؟
لكن قبل المضي قدما لبحث تلك القضية، فإن السؤال الجدير بالاهتمام لماذا يفكر البعض في انهيار الدولار؟ هل ظهرت أي علامة حقيقية على تعرضه لأزمة تؤدي إلى رحيله، فالولايات المتحدة لا تزال أكبر اقتصاد في العالم، ولا يزال الدولار سيد الاحتياطات النقدية على المستوى الدولي، فما الذي يدفع البعض إلى طرح تساؤلات حول مستقبله، واثارة الفزع بالحديث عن إمكانية انهياره.
التاريخ مليء بالانهيارات المفاجئة للعملات، حدث هذا في الأرجنتين، المجر، أوكرانيا، آيسلندا، وألمانيا، بل إن البعض يعد أن ما حدث للعملة الروسية عام 2014 بمنزلة انهيار.
لكن في كل هذه الانهيارات المؤلمة كان هناك حالة من عدم الثقة من قبل المتعاملين بتلك العملات في استقرار النظام المالي والاقتصادي لدول تلك العملات، بحيث شعر المستهلكون أن العملة لا يمكن أن تكون بمنزلة مخزن فعال للقيمة أو وسيلة تبادل. هذا لم يحدث مع الدولار ولا يوجد مؤشر على حدوثه على الأقل.
إذن ما الذي يدفع البعض لطرح هذا التساؤل؟ وهؤلاء البعض من بينهم أسماء كبيرة في عالم الاقتصاد وتحديدا في المجال المالي.
جورج هاردي الخبير المصرفي على الرغم من أنه يعتقد أن قوة الدولار في تراجع، دون أن يعني هذا انهياره على الأقل خلال هذا العقد أو الأمد المنظور، فإنه لا ينفي أن للسؤال مشروعية.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "هناك شعورا بأن سياسة التيسير الكمي التي يتبناها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ الأزمة المالية عام 2008، حولته إلى آلة طائشة لطبع النقود، وأعني طبع الدولارات. إجمالي حزم الإغاثة الأمريكية لمواجهة فيروس كورونا بلغت مجتمعة نحو خمسة تريليونات دولار أي نحو 24 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020، هذا الحقن المالي المتواصل غير مسبوق، وخطورته أنه يشجع الشركات الفاشلة على مواصلة العمل، فترتفع نسب التوظيف وتنخفض البطالة بشكل زائف لا يعبر عن الحقيقة الاقتصادية".
ويضيف "قبل 20 عاما كانت الشركات الفاشلة تقريبا شبه غائبة من الاقتصاد الأمريكي، في عام 2010 شكلت نسبة 6 في المائة من الشركات الأمريكية المسجلة رسميا، العام الماضي بلغت تلك النسبة 20 في المائة".
ويؤكد أنه ترافق هذا الطبع المستمر للدولارات مع سلوك الحكومات الأمريكية المتعاقبة بتمويل الإنفاق من خلال الديون ببيع سندات الحكومة، هذا النمط السلوكي تشاركها فيه عديد من دول العالم، التي تسدد دين أيضا وفي الأغلب بالدولار، وهذا المنطق الاقتصادي لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، ويجعل البعض يعرب عن مخاوفه بشكل صريح بأنه عند نقطة ما سيحدث انهيار مفاجئ وسريع للدولار.
من هذا المنطلق يرى جورج هاردي الخبير المصرفي، أن الخطورة الحقيقية أن النظام الاقتصادي العالمي والنظام المالي باتا مدمنين للدولار، وانهياره يعني كارثة اقتصادية بكل معنى الكلمة.
إلا أن الخوف من انهيار الدولار لا يعد في الحقيقة أمرا جديدا، ففي عام 2008 وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية خفض التصنيف الائتماني الأمريكي لأول مرة، وأدى ذلك إلى تنبؤ بتراجع الاقتصاد الأمريكي، لكن هذا لم يحدث، فحصة الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ارتفعت من 21 في المائة عام 2011 إلى 25 في المائة حاليا، وفي الحقيقة فإن تقدم الاقتصاد الصيني لا يحدث من وجهة نظر بعض الاقتصاديين على حساب الولايات المتحدة وإنما على حساب الاقتصاد الأوروبي والياباني.
بل إن الولايات المتحدة كقوة مالية عالمية وصلت إلى مستويات أعلى، إذ ارتفع سوق الأسهم لديها 250 في المائة متجاوزة بكثير جميع منافسيها، وزادت حصتها من أسواق الأسهم العالمية من 42 في المائة إلى 58 في المائة، ومن ثم زاد الاعتماد بشكل أو آخر على الدولار.
من جهتها، ترى الدكتورة جيه كيه ووالف أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة لندن، أن التحليلات المتعلقة بزوال الدولار قريبا مبالغ فيها، لكن على المدى الطويل فإن الوضع أكثر تعقيدا، فالدولار لديه نقاط قوة ونقاط ضعف قد تقوض أو لا تقوض موقعه العالمي.
وتقول لـ"الاقتصادية"، المشكلة الأساسية الناجمة عن هيمنة الدولار تتمثل في تحميل الاقتصاد الدولي والمنظومة المالية الكونية التقلبات الداخلية التي يتعرض لها الاقتصاد الأمريكي، فالعملة الأمريكية لها تأثير كبير في الاقتصاد العالمي، وهذا ما تجلى في الأزمة المالية عام 2008، إذ بدأت الأزمة في الولايات المتحدة وتحولت سريعا إلى مشكلة مخيفة للبنوك الأوروبية، وكادت أن تعصف بالنظام المصرفي الأوروبي تماما، ولاحقا انعكس ذلك على اليورو، إذ عانى من أزمة حادة بعد نحو عشرة أعوام.
وتضيف "ومن ثم مع خفض هيمنة الدولار عالميا، سيتم تقليل انتقال الصدمات دوليا من الولايات المتحدة للآخرين، ففي الوقت الراهن الدولار يمثل 88 في المائة من معاملات الفوركس العالمية في العالم، ثلث دول العالم مرتبطة صراحة بالدولار، الدول التي تشكل 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي تستخدم الدولار كعملة أساسية، ومن الواضح أن ذلك جعل الاقتصاد الأمريكي محصنا ضد مخاطر هروب رأس المال خلال فترات ضغط السوق، في الوقت ذاته فإن إنهاء سيطرة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي يمكن أن يساعد في تحرير النمو، وتحسين أداء النظام المالي العالمي عن طريق الحد من انتشار الصدمات على الصعيد الدولي".
لكن البعض يرى أن هناك تأثيرات خارج الولايات المتحدة تسهم في إضعاف دور الدولار، فنمو التجارة داخل آسيا يسير بوتيرة متسارعة للغاية ولا سيما بين الدول الآسيوية والصين، وهذا يؤدي لتضاؤل وضع وموقع الدولار في التبادل التجاري، فمثلا تسوية التجارة الثنائية بين الصين وروسيا قبل خمسة أعوام تم 90 في المائة منها بالدولار تلك النسبة تبلغ حاليا 45 في المائة.
يلاحظ أيضا أن وضعية الدولار في الحصة العالمية من احتياطات النقد الأجنبي تتطلب تحليلات أكثر دقة وعمقا، أخذة في الحسبان الفترة الزمنية، حيث ارتفعت تلك الحصة في الربع الأول من هذا العام إلى 59.5 في المائة، بعد أن هبطت إلى أدنى مستوى لها في ربع قرن في الربع الرابع من العام الماضي، لكن إذا تم النظر على مدى زمني أطول، فسنلاحظ أنه منذ عام 1999 عندما طرح اليورو في الأسواق الدولية لأول مرة، انخفضت حصة الدولار من احتياطات النقد الأجنبي من 71 في المائة إلى 66 في المائة عام 2014، ثم واصلت الانخفاض إلى 59.5 حاليا، ويتوقع أن تنخفض إلى أقل من 50 في المائة خلال العقد المقبل.
من هذا المنطلق يعد وليم جورج الاستشاري السابق في بنك إنجلترا (البنك المركزي البريطاني)، أن هناك بعض السيناريوهات التي يمكن تصورها وقد تسبب في أزمة مفاجئة للدولار.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "الأكثر واقعية هو التهديد المزدوج المتمثل في ارتفاع معدلات التضخم والديون المرتفعة في آن واحد، ولذلك نلاحظ أن الفيدرالي الأمريكي يواصل إرسال رسائل واضحة للأسواق بأن التضخم تحت السيطرة، فإذا ارتفع التضخم بحدة فإن الفيدرالي لن يكون أمامه من حل سوى رفع أسعار الفائدة بقوة، ونظرا لأن جزءا كبيرا من الدين الوطني الأمريكي يتألف من أدوات قصيرة الأجل نسبيا، فإن الولايات المتحدة قد تجد صعوبة في تحمل مدفوعات الفائدة، وإذا حدث ذلك سنشهد موجة غير مسبوقة من الدائنين الأجانب الراغبين في التخلص من الدولار، ما قد يتسبب في انهيار العملة الأمريكية، كما أن دخول الولايات المتحدة في ركود حاد أو كساد دون أن يمتد ذلك إلى باقي أنحاء العالم، قد يدفع المستهلكين لرفض الدولار، أو تقليص اعتمادهم عليه".
مع هذا يرى وليم جورج، أن انهيار الدولار سيرتبط بقضية التضخم في الولايات المتحدة، فطالما ظل التضخم تحت السيطرة سيظل الدولار متمسكا بموقعه القوي في الأسواق الدولية.
لكن المفاجأة الكبرى قد تكمن في قناعة أنصار الدولار من الخبراء الاقتصاديين، بأن خصوم الولايات المتحدة لا يريدون للدولار أن ينهار، لكنهم يريدونه أن يضعف تدريجيا، بحيث يستطيعون الحلول محله تدريجيا أيضا، بعد أن يكونوا قد أكملوا استعدادهم لهذا، فالصين واليابان وحتى دول منطقة اليورو، لا يريدون انهيار القوة الاقتصادية لواشنطن فهي عميل مهم للغاية، حتى إذا كانت الولايات المتحدة راغبة في التفاوض أو التخلف عن سداد بعض التزامات الديون، فإنهم مستعدون للقبول بذلك، بل إن بعض الاقتصاديين يتساءل هل يريد منافسو الولايات المتحدة أن ينتهي بهم المطاف بامتلاك عملة قوية تتسيد باقي العملات، مقابل أن يكون لديهم عجز كبير في الحساب الجاري نتيجة الطلب العالمي المتزايد على الأصول الآمنة مثل السندات الحكومية لتلك الدول، لا شك أن مثل هذا الوضع لن يكون مرحبا به من الصينيين أو الأوروبيين أو حتى اليابان في الوقت الراهن على الأقل.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" تي إس ميلتون الخبير في مجال التحليل المالي والاستشاري في عدد من صناديق التحوط الدولية، "ادعاء البعض بأن الدولار الأمريكي في حالة كسوف، غير صحيح، فقد فشل المنافسون لعقود في إخراج الدولار من الساحة المالية العالمية، فالعملات المهيمنة يصعب إزاحتها بسهولة، إذ إن خصومها يرتبطون بها أيضا نتيجة هيمنتها، كما أن الاقتصاد الأمريكي ليس ضعيفا مقارنة بمنافسيه كما يروج، والمنافسون في وضع صعب أيضا، فمنطقة اليورو متشظية، وأزمة المديونية لدى الصين لا تقل مأساوية عن الولايات المتحدة، وعلى الرغم من عمر اليورو القصير فإنه واجه عديدا من الأزمات الوجودية ولا يزال، النظام المالي الصيني منغلقا وغامضا وغير شفاف مقارنة بالنظام الأمريكي".
ويضيف "التحليلات الاقتصادية التقليدية لا تأخذ في الحسبان أيضا الجغرافيا السياسية، فلم يكن التفوق الاقتصادي الأمريكي هو الذي وضع الدولار في المركز في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن القوة العسكرية الأمريكية التي ترجمت في المجال الجيوسياسي، وأسهمت في إعادة تشكيل اقتصاد عالمي متكامل، ومن ثم فإن الدور العالمي للدولار لا يعتمد على القدرة التصديرية لأمريكا أو جدارتها الائتمانية فقط، لكن أيضا قيادتها للعالم، ومن ثم فإن التهديد الحقيقي للدولار لا يأتي من اليورو أو اليوان الصيني أو الين الياباني، لكن يحدث إذا لم تلتزم واشنطن بدورها العالمي في مواصلة قيادة المجتمع الدولي".