السيادة الصحية .. ذراع جديدة للسيطرة على العالم
أخذ الصراع بين الدول الكبرى أشكالا كثيرة، بسبب حجم التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير، والهدف من ذلك هو الهيمنة وبسط النفوذ على العالم بعد السيطرة على مجالات الصناعة والاقتصاد، وكان شائعا أن أبرز مجالات السيطرة العالمية للدول الكبرى الاقتصادية والعسكرية، وبدأت هذه العناصر تكتسب مناحي أخرى على أصعدة متعددة، كغزو الفضاء، والتسليح غير التقليدي، حتى وصلت الحال إلى الهيمنة الغذائية وتحقيق الأمن الغذائي كشرط أساس لضمان بقاء هذه المجتمعات البشرية في الطليعة، لكن معادلات السياسة والاجتماع فرضت تحديات أخرى أوجدتها الظروف اللحظية أو التراكمية، كالأمن الاجتماعي والمكون الشاب للدولة، الذي أجبر دولا أوروبية على فتح باب اللجوء أمام الباحثين عن الحياة الكريمة والفارين من نيران الحروب وويلاتها، للاستفادة منهم جراء وصول مجتمعاتهم إلى الشيخوخة، وخوفا من اندثارها.
لم يخطر ببال أحد أن تكون الهيمنة الصحية أحد أهم أشكال الهيمنة التي ستسيطر على العالم في يوم ما، فما شهده العالم العام الماضي كان استثنائيا، حيث غيرت جائحة كوفيد - 19 ملامح الحياة على سطح الكوكب، إضافة إلى جميع موازين القوى، من خلال شل حركة العالم بشكل تام لأشهر قبل التمكن من اكتشاف اللقاح، الذي لم تظهر إيجابياته وسلبياته حتى هذه اللحظة، لكن بلا شك، كان الناس في مختلف العالم يقفون على رجل ونصف حتى يتمكن العلماء من توفير لقاح، بعد أن دقت أرقام الإصابات والوفيات الحدود المليونية، ليكون على الدول الكبرى مسؤولية تجاه نفسها، بتحقيق الهيمنة الصحية كشرط أساس في معادلة السيطرة على العالم، وضمان كلمة مسموعة لها عالميا، فمن يملك اللقاح يملك في المقابل ثروة اقتصادية مجدية، تمكنه من فرض إرادته على بقية الكيانات الأخرى.
تحاول القوى الدولية التقليدية بذل جهود لحماية السيادة الصحية، التي ظهرت لديها للمرة الأولى في النصف الأول من العقد الأخير من القرن الماضي، عقب نشر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريره للتنمية البشرية، حيث أشار لأول مرة إلى هذا المفهوم، ليكون أحد عناصر الأمن البشري، التي تقف إلى جانب الأمن الاقتصادي، وكذلك المجتمعي والبيئي وغيرها، لكن التعريف بقي مبهما أو بلا معنى لأعوام حتى جاءت الجائحة، التي جعلت من هذا المجال المتعلق مباشرة بحياة الإنسان ضرورة كبيرة، تضمن بقاء أو فناء أمم بحد ذاتها، لذلك كانت الحاجة إلى الإنفاق على الأبحاث العلمية ضرورة قصوى، للإسهام في إيجاد حل للمعضلات التي تصيب البشرية، خصوصا تلك التي بدأت في الظهور بعد التحول المناخي الناتج عن الاحتباس الحراري، الذي غير من ملامح الكوكب الكيمياوية، وسمح بظهور كائنات دقيقة فائقة الخطورة.
لعبت العولمة دورا مهما في تشكيل هالة الأمن الصحي كضرورة بعد دورها الكبير في انتشار الأوبئة بين الدول، إذ لا يقف الأمر عند الموضوع كونه صحيا بحتا، فهو يدخل في إطار معادلات القوة والتوازنات بين الدول الكبرى، التي تسعى لنشر نفوذها وبسط سيطرتها على العالم في كل المجالات، وهذا الصراع كان حاضرا في خطابات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، الذي كان يصف فيروس كورونا بالفيروس "الصيني"، الذي كان يعده لعبة سياسية صينية، للسيطرة على العالم، متهما إياها بتصديره من مدينة ووهان إلى العالم.
لا يقتصر دور الأمن الصحي أو السيادة الصحية على مواجهة الفيروسات أو صناعة اللقاحات لها أو تحدي الأوبئة، بل وضع أطر لتجاوزات بعض الكيانات، التي تعتمد الكيانات السياسية على فرض معادلة الحصول على أسلحة استراتيجية، لضمان وجودها في خريطة السياسة العالمية، فيما تطور دول أخرى برامج أسلحة سرية خطيرة كالغازات السامة وغيرها من المركبات الكيمياوية ذات الضرر الكبير، فيما تحاول بعض الجهات توفير الطاقة، من خلال مفاعلات نووية يعتقد أنها آمنة ونظيفة، لكن التسريبات الإشعاعية في مفاعل فوكوشيما الياباني وما تبعها من أضرار خلفت قتلى وعاهات دائمة، إضافة إلى التلوث البيئي، ولا تنسى البشرية أزمة مفاعل تشرنوبل، التي لامست حدود 200 ضعف قنبلة هيروشيما، لتبقى ضرورة السيادة الصحية لدى هذه الدول ملحة.
كشفت جائحة كورونا عن أن العالم لم يكن مستعدا بشكل كاف لمواجهة وباء مستجد وواسع النطاق، كما حدث في بداية عام 2020، ليبرز عديد من المؤشرات على التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى التقليدية الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي، لتعزيز سيادتها الصحية، من أجل تحقيق مكاسب استراتيجية، بناء على تحقيق مكاسب سريعة، من خلال بيع الكمامات الصحية، والمعقمات، وأجهزة التنفس، فيما نشطت ثقافة المستشفيات الميدانية، وهذه كانت منفعة للدول المصنعة للأجهزة الطبية، لتتمكن هذه الدول من ضرب عصفورين بحجر واحد، أولا مكاسب مادية، ثانيا مكاسب تتعلق بالثقة والاحترام كنشر النفوذ، من خلال المساعدات.
كما شهدت الأسواق الصحية حروبا من تراشق الاتهامات تتعلق بأفضلية لقاح على الآخر والتشكيك في هذا اللقاح لمصلحة لقاح آخر، لكن الدراسات العلمية كانت بالمرصاد لهذه الاتهامات، وكانت اللقاحات ذات فاعلية كبيرة على عكس ما كان يروج لها، لكن لا يعني ذلك عدم وجود أعراض جانبية مصاحبة، تسببت في وفيات وجلطات لنسب قليلة جدا ممن أخذوا اللقاح، ولم يخف على أحد وجود صراع بين المختبرات العلمية، وذلك لعدم وجود أي تنسيق بين المختبرات المتنافسة، كما نزلت الحكومات بثقلها المالي والسياسي لدعم هذه المختبرات، ما يوحي بأن البحث عن التلقيح ليس مجرد مسألة صحية بقدر ما يتعلق بالأمن القومي والسيادة.
تصدر صراع الهيمنة على السيادة الصحية بين الخصمين التقليديين للقوى العظمى أمريكا والصين، ليأخذ صراعهما التجاري والعسكري أبعادا أخرى بشكل كبير، وشبه كثيرون أزمة كورونا بين بكين وواشنطن بأزمة الحرب الباردة، كما سبق أن فرضت عقوبات اقتصادية عليها، أمام المحاكم للحصول على تعويضات بمئات المليارات من الدولارات، فيما كانت الصين ترد على الولايات المتحدة، بأن واشنطن هي سبب انتشار الفيروس في الصين، لأنها أرسلت جنودا أمريكيين إلى مدينة ووهان وكانوا يحملون الفيروس، وتستمر معركة السيادة الصحية بين الدولتين إلى مرحلة أول 100 يوم من حكم الرئيس جو بايدن، إذ تبادل مسؤولون أمريكيون وصينيون عبارات حادة، في أول محادثات رفيعة المستوى تجريها الإدارة مع الصين، واتهم المسؤولون الصينيون الولايات المتحدة بتحريض دول على مهاجمة الصين، أما الأمريكيون فقالوا: "إن الصينيين جاءوا بنية العجرفة".