أهمية أسعار الجملة في قياس التضخم
المخاوف من ارتفاع مستوى التضخم مبررة لما لذلك من دلالات على الحركة الاقتصادية بشكل عام، ولما لذلك من تأثيرات سلبية في أسواق الأسهم بشكل خاص. ينظر عادة إلى مؤشرات أسعار المستهلك لمعرفة نسبة التضخم، على الرغم من جوانب القصور في هذه المؤشرات التي تكون مبنية على سلال استهلاكية منتقاة بشكل معين، إلا أنه عادة لا يلقى كثيرا من الاهتمام إلى مؤشرات أسعار الجملة بالرغم مما يحتويه من معلومات مختلفة عن حقيقة التضخم وتوجهه على المديين المتوسط والقصير.
في بعض الدول هناك مؤشر يختص بأسعار المنتجين وهناك مؤشر آخر لأسعار الجملة، بينما في المملكة لدينا فقط مؤشر لأسعار الجملة تقوم برصده ونشره الهيئة العامة للإحصاء. ما مؤشر أسعار الجملة؟ وكيف يمكن الاستفادة منه في رصد حركة التضخم وتأثيره في المستهلك؟
إلى جانب نسبة البطالة في البلاد، يعد مؤشر تضخم الأسعار من البيانات الاقتصادية المهمة، حيث يرصد تغير أسعار السلع والخدمات من فترة لأخرى، ويمكن حسابه إما على مستوى المستهلكين وإما على مستوى المنتجين أو على مستوى مبيعات الجملة، والأكثر شيوعا وشعبية بين الاقتصاديين والمستثمرين هو مقياس الأسعار النهائية التي يدفعها المستهلك. أما مؤشر أسعار الجملة فهو يأخذنا خطوة أو خطوتين إلى الوراء وينظر إلى الأسعار التي يدفعها تجار الجملة، وبالتالي هناك فائدة زمنية استباقية من هذا المؤشر .. أي أن تأثير ارتفاع مؤشر أسعار الجملة سيجد طريقه إلى المنتجات النهائية التي ستظهر أسعارها في مؤشر أسعار المستهلك.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة هناك ارتفاع ملحوظ في أسعار المستهلك، بلغ 4.2 في المائة بنهاية نيسان (أبريل) مقارنة بنيسان (أبريل) من عام 2020، وهو يعد ارتفاعا كبيرا وغير مألوف، وتجاوز توقعات الاقتصاديين الذي قدروه في المتوسط عند 3.6 في المائة. بينما في المملكة، ارتفعت نسبة التضخم لآذار (مارس) 2021 على أساس سنوي بنسبة 4.9 في المائة، غير أن مقدار التضخم في المملكة له أسباب تختلف عن أسباب ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة.
لو قمنا بقياس نسبة التضخم في المملكة دون تأثير ضريبة القيمة المضافة التي تم رفعها من 5 في المائة إلى 15 في المائة لشهر 7 العام الماضي سنجد أن نسبة التضخم في حقيقة الأمر ربما تكون صفرا أو أقل من الصفر، أي أنه لا يوجد تضخم عن العام الماضي، لماذا؟
من دراسة البيانات الرسمية الخاصة بمؤشر أسعار المستهلك يتبين أن التغير الشهري للتضخم منذ عام 2013 غالبا يكون قريبا للصفر وأحيانا يكون التغير بالسالب، ما يعني أن الأسعار، بحسب السلة المستخدمة لرصد الأسعار، غالبا لا تتغير بشكل ملحوظ من شهر لآخر. إلا أن ذلك تغير فجأة في كانون الثاني (يناير) 2018 حين قفز التضخم الشهري إلى 4.1 في المائة وذلك بسبب البدء في تطبيق ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5 في المائة وكذلك نتيجة تعديل عام الأساس المستخدم في رصد التغير ليصبح 2018 بدلا من 2010 سابقا.
ومنذ 2018 نجد أن التغير الشهري لنسبة التضخم يتماشى مع التغيرات الشهرية لما قبل ذلك، حيث يأتي عادة قريبا للصفر، إلى أن جاء تموز (يوليو) 2020 حين تم رفع نسبة ضريبة القيمة المضافة إلى 15 في المائة، أي بزيادة 10 في المائة عن السابق، وعندها سجل التضخم ارتفاعا بلغ 5.9 في المائة في شهر واحد فقط. لذا فإن مقارنة نسبة التضخم، التي نأخذها هنا من مؤشر أسعار المستهلك، مع الأشهر السابقة لتموز (يوليو) 2020 ستكون مرتفعة بشكل مشوه. ولو قارنا مستوى التضخم في آذار (مارس) 2021 بتموز (يوليو) 2021، سنجد أن نسبة التضخم بالسالب!
وبالرغم من هذه التفسيرات الإحصائية لنسبة التضخم بحسب أسعار المستهلك، هناك حالات ارتفاع ملحوظة تتجاوز تأثير الزيادة في ضريبة القيمة المضافة، فنجد مثلا أن أعلى ارتفاعات في الأسعار تجاوزت 15 في المائة هي من نصيب تكلفة التأمين والمجوهرات والساعات وبشكل لافت يأتي ارتفاع الآلات الموسيقية ومعدات الترفيه بنسبة 22 في المائة عن العام الماضي. وفي المقابل أكبر انخفاض في الأسعار نجده في تكاليف التعليم بشكل عام، التي انخفضت بحدود 12 في المائة، والسبب الرئيس في ذلك هو أن عددا كبيرا من المدارس قامت بتقديم تخفيضات على رسوم التعليم بسبب الدراسة عن بعد.
أما المؤشر الآخر المهم في رصد حركة التضخم فهو المؤشر القياسي لأسعار الجملة الذي ارتفع بنسبة 8.7 في المائة لآذار (مارس) 2021 مقارنة بآذار (مارس) 2020. وهذا المؤشر عبارة عن عملية قياس لأسعار أهم خمسة نشاطات لتجارة الجملة، وهي (1) المنتجات الزراعية، (2) الخامات والمعادن، (3) المنتجات الغذائية والمشروبات والأنسجة، (4) المنتجات المعدنية والآلات والمعدات، و(5) سلع أخرى.
هذا المؤشر يختلف عن مؤشر أسعار المنتجين، وهو مؤشر غير موجود في المملكة، وهو السبب في كون نسبة أسعار الخامات والمعادن فيه ضئيلة جدا، تبلغ أقل من 9 في المائة من جميع منتجات الجملة، بينما نسبة أسعار المنتجات المعدنية والآلات والمعدات تبلغ 40 في المائة. السبب في ذلك يعود في تقديري إلى كون نشاط التصنيع الذي بطبيعته يعتمد على المواد الخام يعد أقل وزنا من نشاط التجميع في المملكة، ولذلك فمؤشر أسعار الجملة لن يكون دقيقا لو تم الأخذ بنسبة أعلى للمواد الخام في منتجات الجملة. والسبب الآخر مرة أخرى هو أن هذا مؤشر لأسعار الجملة وليس لأسعار المنتجين. بالنظر إلى نسب الارتفاعات في أسعار الجملة لآذار (مارس) 2021 مقارنة بآذار (مارس) 2020، نجد أنها عالية جدا في أسعار الحيوانات الحية (27 في المائة) وفي اللدائن الأولية (25 في المائة)، وهي مواد خام أو شبه خام تستخدم في صناعات متعددة، وفي المنتجات الحديدية والنحاس والنيكل التي بلغ ارتفاعها 30 في المائة، وفي الآلات المكتبية والمحاسبة (29 في المائة)، التي ربما يعود السبب في ارتفاعها إلى الطلب على مستلزمات العمل من المنازل. كذلك ارتفعت المنتجات الزراعية بنسبة 11.5 في المائة والمعادن وأحجار البناء والرمل لأكثر من 14 في المائة. وبشكل عام نجد أن المنتجات الغذائية واللحوم والأسماك وزيوت الأكل والمنتجات الخشبية والزجاجية والخزفية جميعها ارتفعت.
ختاما، بالنظر إلى ارتفاع أسعار الجملة بنسبة 8.7 في المائة، وذلك ضعف مقدار الارتفاع في أسعار المستهلك البالغ 4.9 في المائة، علينا أن نتوقع مواصلة الارتفاع في أسعار المستهلكين لأن أسعار الجملة غالبا تسبق أسعار المستهلك. وارتفاع التضخم غالبا يؤثر في أسعار الأسهم، خصوصا إذا كانت الأسهم مرتفعة منذ فترة طويلة ومكررات الربحية لديها عالية، وهذا حاصل في الأسواق الأمريكية أكثر من السوق السعودية.