الأسواق في عصر الاقتصاد الرقمي

في مقال سابق تحدثت عن مشكلة التنبؤ التي أصبحت صعبة جدا، بل مليئة بالمخاطر، نظرا لأن التقنيات التي نستخدمها للتنبؤ لم تعد تقدم فائدة كبيرة. على سبيل المثال فإن قواعد مثل مكرر الأرباح، ومعامل بيتا، وتحليل الانحدار لم تعد مجدية لفهم سلوك الأسهم المحلية والعالمية، ونلاحظ قدرة مجموعة من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي - إذا صحت تلك الفرضية - على إحداث أثر هائل جدا ورفع سعر السهم أضعافا مضاعفة، بينما يؤكد التحليل المبني على سلوك السوق أن سعر السهم سيتراجع، وقد حدث في السوق الأمريكية التي ادعت هيئة السوق المالية SEC هناك أنه لا يمكن لأحد أن يوثر في حركة السهم والسوق، نظرا لحجم وعمق السوق الأمريكية لكنها أطلقت تصريحها ذاك في زمن غير هذا، وها قد ثبت عدم صحة هذه المقولة.
كما شهدت السوق السعودية مثل هذا السلوك أكثر من مرة، فرغم الخسائر المتراكمة والأنباء السيئة تجد السهم يحقق نسبا كاملة، ولقد حاول البعض عبثا تفسير ذلك بأنه سلوك شركات النمو، لكن هيهات، أين لشركة تحقق خسائر متراكمة منذ أنشئت وتنتقل من مرحلة خفض رأس المال إلى زيادة رأس المال إلى خفض رأس المال مجددا في دورة كل عشرة أعوام، أين مثل هذه الشركة من شركات النمو؟ ومع ذلك فإن السوق سعيدة بمثلها، لست أقول بخطأ ذلك أو صوابه، بل إن قدرتنا على فهم آليات الاقتصاد الحديثة وتفسير سلوك الاستثمار والأسواق والتوازن الكلي من منطلقات قديمة لم تعد مجدية.
حركة أسعار الأسهم اليوم لم تعد تتأثر بتقييم السهم، بل بسرعة الإنترنت، وسرعة الأجهزة والآلة في الاستجابة للطلبات، والنمو الكبير في سرعات الإنترنت والتواصل الفعال مع الأسواق العالمية هو الذي أوجد الزخم الأساس في التداول. الأجهزة التي بين أيدينا اليوم التي كتبت من خلالها هذا المقال، أو تلك التي تقرأ من خلالها الآن، هي التي تحكم شكل الاقتصاد العالمي اليوم وقراراتك فيه. من لدية القدرة على الوصول السريع قبل الآخرين سيحسم بشكل أسرع اتجاهات السوق، وإذا كان هذا صحيحا، فإن مجموعة ضخمة من الآلات الذكية المتصلة بالسوق يمكنها أن تحدث آثارا مرعبة، فمن يسبق الآلة؟.
وعليه فإن جزءا لا يستهان به من تكلفة الاستثمار هي قيمة الآلة التي تستثمر من خلالها، وقيمة فاتورة الاتصالات، وقدرة الشبكات المحلية على الاستجابة والتطبيقات التي تستخدمها الأسواق المالية وشركات الوساطة والصناديق، ومع ذلك فإن هناك قليلا جدا بل نادرا من الدراسات التي استكشفت هذا المجال وتأثيراته الاقتصادية، لكن هناك دراسات أثبتت أن هناك أثرا كبيرا جدا لتقنية البلوكتشين والتعدين الرقمي الضروري لإنتاج العملات المشفرة على البيئة عموما. ومع أن الربط بينهما يبدو غريبا للغاية، لكن إدارة شبكات البلوكتشين والعملات الرقمية والتعدين فيها، يتطلب حتما بقاء أجهزة كثيرة جدا حول العالم مرتبطة بالشبكة العالمية، ولك أن تتصور حجم الأجهزة الضرورية لحفظ ملايين من العلاقات التشابكية والعملات حول العالم وحجم الخوادم التي تعمل ليلا ونهارا وتتطلب بجانبها أجهزة تبريد هائلة لتخفيف ارتفاع درجة الحرارة أثناء العمل، حتى إن بعض التجارب تتجه لوضع هذه الخوادم تحت الماء، وكل هذا يتطلب أحمالا كهربائية كبيرة، ما يعني ارتفاع الطلب على الطاقة نظرا لتنامي الاقتصاد الرقمي، وهذا لا شك يعني استمرار الآثار البيئية. هذا الحديث ليس مجرد مقال بل هي حقائق عالمية، ويكفيك أن تكتب عبارة مثل Bitcoin and Energy Consumption، في محركات البحث العادية أو العلمية لتكتشف بنفسك حجم القلق، وهذا يدل على أن التطوير الهائل في الاقتصاد الرقمي يعني طلبا قويا مماثلا على الطاقة والطاقة المتجددة لن تكون قادرة على تلبية هذا الحجم.
المسألة الأكثر تشعبا هو أن تطوير الاقتصاد الرقمي يحمل في طياته قلقا على عنصر العمل، ذلك أن الاقتصاد الرقمي يعني ببساطة هيمنة الآلة على حصص كبيرة من الدخل الناتج، ولهذا فإن التفسيرات القديمة بشأن حق العمال في الثروة الذي تسبب في ظهور الاشتراكية ودول الرفاهية، لم يعد أساسا يمكن الاتكاء عليه في تفسير التوزيع وعدالة التوزيع ولعل كل نظرية ماركس تنتهي هنا، فإذا كانت الآلة اليوم هي التي تتكفل بكل شيء تقريبا، ولديها قدرات مرعبة في التعرف على الأشخاص والتعامل مع الحيوان ولديها قدرات ضخمة في زيادة الإنتاج الزراعي، بل ظهرت اليوم آلات الطباعة الرقمية القادرة على بناء المنازل، فإن عناصر إنتاج الثروة أصبحت محصورة في رأس المال والآلة، ولأن الآلة تتكفل بكل شيء تقريبا، وتكلفة تشغيلها وصيانتها واستبدالها تتعاظم من عام إلى عام، فإن حصص المنظم والعمال تتآكل بشكل مقلق جدا، وهذا يجعل القوة الشرائية للعمال مهددة بالتراجع يوما بعد يوم كلما زاد حجم الاقتصاد الرقمي، لكن مع ذلك فإن الاقتصاد العالمي ينمو رغم وجود مشكلات كبيرة تتعلق بقدرة العمال على الشراء، وهذه من التقلبات الهائلة الناتجة عن الظروف الراهنة، فمع تراجع قدرات العمال على الشراء تنامت في المقابل قدرة الآلة على الشراء بذاتها أو من خلال المنظمين، وهذا حافظ على توازن كلي مدهش، فالآلات تشتري اليوم إنتاج الآلات الأخرى، والآلات لا تعرف الذهب والفضة ولا تعرف وظائف العملة التي نعرفها مثل قدرتها على خزن الثروة، فالآلات لا تحتاج إلى خزن الثروة، بل تحتاج إلى تسهيل عمليات التبادل ولهذا تتنامى بشكل مدهش العملات الرقمية حول العالم كلما نما الاقتصاد الرقمي الذي يربط الآلات بعضها بعضا. وللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي