الأمن السيبراني البيولوجي .. البيوسيبراني «2 من 2»

لقد فتح تداخل علوم الحاسب الآلي والأحياء وتقدم الرقمنة السريع اكتشافات مذهلة في فك تشفير الشريط الوراثي أو الجينوم البشري Genome بمساعدة أجهزة الحاسب وإنشاء كائنات حية ذات قدرات جديدة، إضافة إلى أتمتة تطوير الأدوية وإحداث ثورة عنيفة في صناعة الأغذية.

لقد أثبتت الفيروسات الحاسوبية مثل ستوكس نت Stuxnet أن انتهاكات الأمن السيبراني يمكن أن تسبب أضرارا مادية كبيرة، لكن ماذا لو كانت لتلك الأضرار عواقب وتبعات بيولوجية؟ هل يمكن لهؤلاء المتسللين البيولوجيين استهداف المعامل الحكومية التي تدرس أو تعالج الأمراض المعدية؟ ماذا عن مصانع وشركات الأدوية؟ من المرجح أن تزداد الفرص الإرهابية، نظرا لسهولة الوصول إلى المعلومات الجينية عبر الإنترنت والاعتماد على العمل الرقمي، إضافة إلى الطابع العلمي.

إن الخط الفاصل بين تسلسل الحمض النووي المادي وتمثيله الرقمي أصبح ضبابيا، وكما ذكرنا في مقال سابق عن رقمنة الحمض النووي وإمكانية تخزين المعلومات الرقمية بما في ذلك البرامج الضارة ونقلها عبر الحمض النووي، حتى إن معهد كريج فينتر الأمريكي استطاع إنشاء شريط وراثي اصطناعي يحمل علامة مائية بروابط مشفرة ورسائل مخفية. لقد كان بإمكان المهندسين الوراثيين سابقا إنشاء جزيئات جديدة من الحمض النووي عن طريق تجميع جزيئاتها الطبيعية معا، لكن يمكن اليوم استخدام التجارب والعمليات الكيميائية المعقدة في إنتاج حمض نووي اصطناعي وغالبا ما يتم إنشاء تسلسل هذه الجزيئات باستخدام برامج ومحاكاة حاسوبية.

وعلى زمام الطريقة التي يستخدم بها مهندسو الكهرباء للبرمجيات لتصميم شرائح الحاسب ومهندسو الحاسب للبرامج لكتابة برامج الحاسب، يستخدم مهندسو الوراثة البرمجيات لتصميم الجينات، وهذا يعني أن الوصول إلى عينات حقيقية لم يعد ضروريا لإنشاء عينات بيولوجية جديدة.

إن فكرة إنشاء فيروس بيولوجي معد خطير عن طريق الوصول إلى الإنترنت فقط ستكون مبالغة كبيرة لكن لها حالات خاصة وأمثلة حية.

فقد استخدم مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأمريكيCenter for Disease Control and Prevention في عام 2005 مخططا لتسلسل الحمض النووي والهدف هو إعادة بناء الفيروس المسؤول عن الإنفلونزا الإسبانية الذي كان من أحد أكثر الأوبئة فتكا في القرن الماضي. وعليه يعد تحرير تسلسل الحمض النووي وكتابته سهلا وبسيطا، بسهولة معالجة المستندات النصية نفسها بمساعدة أجهزة الحاسب لكن يتم ذلك لأهداف عبثية وتخريبية متعمدة.

لقد ركز البحث والنقاش العلمي حول الأمن البيوسيبراني Cyberbiosecurity حتى الآن إلى حد كبير على تصورات خطيرة وتهديدات واضحة، حيث يمكن استخدام الفيروسات الحاسوبية لاختراق الأجهزة التي يتم التحكم فيها رقميا في مختبرات الأحياء أو البيولوجيا، وكذلك يمكن استخدام الحمض النووي لتنفيذ الهجوم عن طريق تشفير برمجيات خبيثة Malware عندما يتم تحرير تسلسل الحمض النووي إلى ملفات رقمية.

وكذلك يمكن للجهات المعادية استخدام البرامج وقواعد البيانات الرقمية لتصميم أو إعادة بناء مسببات الأمراض، وقد تكون النتائج كارثية إذا اخترقت قواعد بيانات التسلسل أو جزيئات الحمض النووي المصممة رقميا بقصد إحداث أضرار وتخريب متعمد.

وللإحاطة ليس كل تهديدات الأمن البيولوجي الإلكتروني متعمدة أو ذات نوايا إجرامية، فبعض الأخطاء الفادحة داخل المعمل قد تكون غير مقصودة مثل تلك التي تحدث أثناء التجارب وتحرير خاطئ بين جزيء الحمض النووي ومرجعه الرقمي، لكن قد تكون التكاليف باهظة.

ورغم صعوبة الأمر ودهشة التفكير، فقد يكشف العلم عن وجهه القبيح في استخدام الحاسب والبرامج ذات العلاقة في إرسال الفيروسات البيولوجية، وقد تكون جزءا من أفلام الخيال العلمي. من الممكن أن تساعد التغييرات الحديثة في البنية التحتية والتقنيات الجديدة على رفع أمنية سير العمل بواسطة وضع إرشادات الفحص لمساعدة منظمات تصنيع الحمض النووي على فحص الطلبات بحثا عن مسببات الأمراض المعروفة، وتجب مراقبة هذا الجانب في المؤسسات الأكاديمية من خلال وضع مبادئ توجيهية إلزامية مماثلة لأي أوامر صادرة لتصنيع الحمض النووي. لقد كانت القدرة سابقا على معالجة الحمض النووي احتكارا على قلة مختارة ومحدودة جدا في النطاق والتطبيق بسبب تدني المعرفة وضحالة البحث العلمي وصعوبة البنية التحتية. لكن الباحثون يعتمدون اليوم على سلسلة إمداد متقدمة ومتوافرة وشبكة من أجهزة الحاسب التي تتلاعب بالحمض النووي بطرق غير مسبوقة، ولذلك نرى التوجه العالمي في التفكير جديا في ضبط أمان الواجهة الرقمية للحمض النووي، تحسبا وحماية لأي اختراق متوقع للأمن البيولوجي.

أخيرا، تعد المملكة في مصاف الدول التي عالجت الأمن السيبراني بكل كفاءة واقتدار وأنشأت مجالا خصبا للتواصل مع الجهات المحلية ومراقبة الفضاء "الإنترنتي" والتنبيه لأي ظرف طارئ، وكذلك المضي قدما نحو تقديم برامج أكاديمية وبناء قدرات ذاتية. لكن الأمن البيولوجي يعد جانبا مهما للنظر له والاهتمام به بكل عناية ومتابعة الممارسات العالمية في هذا المجال من أجل رسم خطط استباقية وتعزيز الأمن القومي.

ومنها ضرورة رفع مستوى الوعي سواء للأفراد أو للجهات ذات العلاقة تجاه الأمن والسلامة البيولوجية في المختبرات الطبية والبحثية، وحث القطاعات المختلفة على التقيد والالتزام بمبادئ الأمن والسلامة البيولوجية. وليس الأمر بمراقبة المعامل البيولوجية، فحسب لكن تعزيز التدابير لوقف أي هجوم بيولوجي. لقد استطاعت المملكة ضبط جائحة كورونا والتحكم بها بما يعزز القدرات الوطنية والخبرات المحلية، وبما يتناسب مع المضي مستقبلا في صياغة سياسة وأنظمة واضحة للأمن البيولوجي.

وأصبحت تهديدات الأمن البيوسيبراني ذات أهمية متزايدة مع استمرار التقدم التقني في التسارع في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة والأحياء التركيبية، ويظل دور المؤسسات الأكاديمية والبحثية مهما كتقديم رسائل وأطروحات الدراسات العليا المتقدمة من أجل البحث في هذا المجال الذي لا يزال محاطا بالضباب والغموض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي