السعودية وبناء العالم السيبراني
لم يبرز العالم السيبراني في حياتنا فجأة، بل جاء متدرجا في تقديم تقنياته وإعطاء خدماته التي نجحت في نقل تنفيذ كثير من الأعمال المهنية والنشاطات الاجتماعية من العالم المادي إلى رحابه الخاص. وبالطبع فإن الأصل يعود دائما إلى العالم المادي، وما العالم السيبراني سوى وسيلة للارتقاء بكيفية تنفيذ كثير من فعاليات العالم المادي من أجل أداء أكثر كفاءة في مردوده، وأفضل رشاقة في إنجازه. ويضاف إلى ذلك فوائد مختلفة أخرى، على رأسها إلغاء البعد الجغرافي لفعالياته، وجمع المشاركين فيها، أينما كانوا، داخل الأوطان، أو على مستوى العالم، ضمن شاشة واحدة يطل عليها الجميع. بدأ مشهد العالم السيبراني، في مراحله الأولى بالاتصالات التي انطلقت سلكية، وتطورت لتضيف وسائل لاسلكية، ثم فضائية عبر الأقمار الصناعية تغطي من خلالها مختلف بقاع الأرض، وكذلك خلوية توفر عبرها الاتصال إلى الجميع، سواء من الثبات أو من الحركة. بذلك تضمن مشهد العالم السيبراني تداولا للمعلومات بالصوت والصورة والنصوص، عبر شبكات الهاتف ومحطات الإذاعة والتلفزيون التي غطت العالم بأسره. وأعقب ذلك الزواج الناجح بين تقنيات الاتصالات، وتقنيات الحاسوب الذي أنجب الإنترنت، حيث تعززت شبكات الاتصالات بمواقع معلومات حاسوبية تقدم خدمات معلوماتية تحتاج إليها مختلف مجالات الحياة، سواء مهنيا أو اجتماعيا. وهكذا برز العالم السيبراني كما نعرفه اليوم، ونعرف أنه يتطور باستمرار في إمكاناته وخدماته، بل في ذكاء هذه الخدمات مع تطور الذكاء الاصطناعي.
ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن شبكات البريد العادي، وهي شبكات نقل، سبقت الاتصالات في تأمين تبادل المعلومات. لكنها لم تخرج عن نطاق العالم المادي كما فعلت شبكات الاتصالات والإنترنت. وترتبط شبكات البريد، إداريا، في كثير من دول العالم بشبكات الاتصالات.
غاية هذا المقال هي إلقاء الضوء على العالم السيبراني في المملكة ورحلة بنائه عبر الأعوام، إلى أن وصل إلى مشهده المتميز في الوقت الحاضر الذي يتمتع بقدرة على مواكبة المتغيرات والاستجابة لتطور المتطلبات، سواء المباشرة أو الكامنة التي تنتظر من يقوم بتفعيلها.
بدأت الخطوة الأولى لبناء العالم السيبراني في المملكة بإنشاء مديرية البرق والبريد والهاتف عام 1926. وفي عام 1952 جرى إلحاق مرافق البريد والبرق والهاتف بوزارة المواصلات. وتم بعد ذلك، عام 1975، إنشاء وزارة خاصة باسم وزارة البرق والبريد والهاتف، وكانت الوزارة مسؤولة عن تقديم خدمات الاتصالات. وجرى تغيير اسم هذه الوزارة ليصبح وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات عام 2003. وبالتوافق مع ذلك، تم إنشاء الإذاعة السعودية عام 1948، ثم التلفزيون الأبيض والأسود عام 1962، فالتلفزيون الملون عام 1971.
واستجابة لخصائص تقنيات الحاسوب والتوجه نحو الاستفادة منها، تم عام 1981 إنشاء مركز المعلومات الوطني. وتقول رؤية المركز: إنه يسعى إلى التميز في تقديم منصات خدمات رقمية وطنية ذكية، وآمنة، ومستدامة. ويقوم المركز، من خلال هذا التميز، بتزويد الجهات ذات العلاقة بالتقنيات والدعم الفني وخدمات المعلومات، على أسس علمية، تسهم في تعزيز الأمن وتحقيق التحول الرقمي المنشود على المستوى الوطني.
شهد عام 1998 تأسيس شركـة الاتصالات السعودية للقيام بخدمات الاتصالات بدلا عن الوزارة. ثم تم عام 2001 إنشاء هيئة الاتصالات التي أصبحت فيما بعد هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات. وتقضي رسالة الهيئة بحماية مستخدمي قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات وتشجيع الاستثمار فيه من أجل توفير خدمات متميزة وتقنيات مبتكرة. وتتطلع الهيئة إلى الارتقاء بخدمات قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات وقطاع البريد نحو آفاق جديدة.
رعت هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات ضمن مهامها لجنة مجتمع المعرفة التي أسست نتيجة مشاركة المملكة في مؤتمر قمة مجتمع المعلومات WSIS الذي عقد على مرحلتين: الأولى في جنيف عام 2003، والثانية في تونس عام 2005. وقد اهتمت اللجنة بمختلف جوانب مجتمع المعلومات كما وردت في قمة مجتمع المعلومات. وشمل ذلك التركيز على الإنسان وعلى توعية وتأهيل أبناء المجتمع والاستجابة لمتطلباتهم، وعلى التنمية الوطنية من خلال التواصل مع المؤسسات المحلية، ثم على الاستفادة من تجارب الآخرين من خلال التواصل الدولي.
تم عام 2005 إنشاء برنامج التعاملات الحكومية الإلكترونية "يسر"، الذي تحول عام 2021 إلى هيئة الحكومة الرقمية. الهدف المطروح في هذا المجال هو حكومة رقمية رائدة ومتجددة محورها المواطن، والعمل المنشود هو قيادة التحول الرقمي للجهات الحكومية، والالتزام المطلوب هو تطوير جودة وفاعلية الخدمات المعلوماتية في القطاع الحكومي. وفي هذا المجال، تعطي خدمات "أبشر" الحكومية الإلكترونية مثالا يحتذى للخدمات التي تتمتع بالكفاءة والتطور المستمر.
في عام 2017 تم في المملكة إنشاء هيئة للأمن السيبراني تتطلع إلى عالم سيبراني سعودي آمن وموثوق يسهم في التنمية والازدهار. وتعد الهيئة أن ذلك يحتاج إلى كوادر وطنية مؤهلة وطموحة، وإلى تعاون مع القطاعات الرئيسة والمنشآت الحيوية. وبناء على ذلك، تشمل نشاطات الهيئة: إعداد استراتيجية متطورة لحماية هذا العالم، ووضع سياسات، ومعايير، وضوابط، ومؤشرات لتحقيق هذه الحماية، وإشعار الجهات ذات العلاقة بالمخاطر، ومشاركة المعلومات معها، ورفع مستوى الوعي، والتدريب وبناء القدرات، وغير ذلك.
إضافة إلى ما سبق، شهد عام 2019 تأسيس هيئة البيانات والذكاء الاصطناعي، التي يمثل مركز المعلومات سابق الذكر أحد مكوناتها. تتطلع هذه الهيئة إلى الارتقاء في المملكة إلى الريادة ضمن الاقتصادات القائمة على البيانات. وتسعى إلى إطلاق القيمة الكامنة للبيانات باعتبارها ثروة وطنية، وتفعيل التوجه نحو الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته والإبداع والابتكار في معطياته.
هكذا كانت مسيرة المملكة في بناء عالمها السيبراني، وقد طرحت باختصار محاولة المرور بمختلف المحطات الرئيسة. ويبدو واضحا أن الجهود المبذولة تصب في مصلحة متطلبات الإنسان للاستفادة من هذا العالم التي طرحناها في المقال السابق التي تشمل: توعية الإنسان وتأهيله، وتأمين توصيله إلى تقنيات هذا العالم وخدماته، ومنحه بيئة آمنة تحمي أعماله ونشاطاته. وهي بذلك تدعوه إلى الإبداع والابتكار في معطيات هذا العالم، وإلى مزيد من الاستفادة منه في تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها.