رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الجامعات وسوق العمل الذي لا يحتاج إلى مهارات .. من المتهم؟

يكثر الحديث بشكل شبه يومي تقريبا عن المواءمة بين سوق العمل ومخرجات التعليم، ومع الأسف الشديد وبناء على مجرد استطلاعات رأي صحافية أو مقالات غير مهنية في بعض وسائل الإعلام تم إطلاق فرضية مفادها أن البطالة تعود إلى مشكلة ضعف مخرجات التعليم، هذا المقال هو تقييم لهذه الفرضية وذلك من خلال تجارب شخصية مباشرة، ذلك أنني لم أجد دراسة علمية متكاملة توضح العلاقة أو تفسير الوضع الراهن. كل ما توافر لي في أفضل الأحوال دراسة لاستطلاع الرأي، وأي دراسة لاستطلاع لا تثبت العلاقات بين العوامل، فهي تثبت (فقط) وجود رأي معين في المجتمع. لكن العلاقات بين العوامل تحتاج إلى بنية فلسفية تفسيرية كاملة ثم اختبارات تجريبية لإثبات أو نفي العلاقات. مثل هذه الدراسة العلمية، لم أجدها، ولم أجد ما يثبت أن مخرجات التعليم لدينا لا تتواءم مع متطلبات سوق العمل. فما الحلقة الأضعف؟ هل هو التعليم أم سوق العمل؟
في زيارة إلى أحد مصانع الرياض وبالتحديد في المدنية الصناعية الثانية، جاء الحديث مع المدير التنفيذي عن سبب عدم وجود سعوديين يعملون في المصنع رغم سهولة الأعمال في المصنع مع أجهزة يمكن لخريجي كليات التقنية التعامل معها ببساطة، لقد جاء الرد سهلا بالفرضية العقيمة نفسها أن مخرجات كلية التقنية لا تتناسب مع أعمال المصنع. لا أنكر أن صوتي يرتفع مع مثل هذه التصريحات بشكل قد يسيء إلي أحيانا، لكني فعلت ذلك قلت له، إنني مستعد لإثبات أن طلاب الكلية التقنية كافة بل الثانوية الصناعية قادرون على تشغيل هذه الأجهزة وببساطة، لكن المدير التنفيذي واجه ردي بأعصاب هادئة وقال بكل ثقة إنهم قد يجيدون التعامل معها لكنهم لا يجيدون التحدث باللغة الإنجليزية، قلت له وهل تركيبات ومعالجات وتعامل مع آلة ميكانيكية بحتة تحتاج إلى لغة أصلا فضلا أن تكون الإنجليزية، هنا جاء الرد الصادم، أن باقي العمال في المصنع يجيدون اللغة الإنجليزية فكيف لخريج الكلية التقنية أن يتعامل معهم إذا لم يكن يجيدها؟ لم أتصور أن هذا هو سبب عدم المواءمة بين سوق العمل وخريجي الجامعات وكليات التقنية، وأن طلابنا لا يجيدون التعامل مع (العمال الأجانب) الموجودين في هذه المصانع، وللحقيقة فإن الجامعات فعليا لا تهتم بذلك، بمعنى أننا لا ندرس اللغة الإنجليزية لمجرد التعامل مع العمال الأجانب في بلادنا. لكن هذا المدير التنفيذي وغيره لا يسألون لماذا لم يكن العامل الأجنبي غير متوائم مع مخرجات جامعاتنا وطلابنا، ولماذا لا يوجد معهد في المدن الصناعية لتعليم اللغة العربية مثل كل بلاد الدنيا التي تحترم لغتها وتحافظ على الوظائف؟
في تجربة شخصية قديمة بعد تخرجي من الجامعة عام 1414هـ، وبعد وساطة عائلية تقدمت لمدير الموارد البشرية في شركة تعمل في مشاريع الاتصالات مع الحكومة، وذلك بحثا عن فرصة عمل، فرصة للتدريب على الأقل، كان المدير سعوديا ولكنه لم يكن صاحب قرار فقد أخذ بيدي لكل المديرين "الأجانب" والعديد منهم عرب، في كل الإدارات يستجديهم منحي فرصة، ولم يوافق أحد منهم على ذلك بحجة أن "اللغة الإنجليزية" لم تكن لغة الدراسة، لم يناقشني أحد في تخصصي، وقلت لهم إنني مستعد لخوض الاختبارات والمقابلات سواء في التخصص أو حتى في اللغة، وكانت الإجابة أن تحديات العمل أصعب من مجرد مقابلة. هكذا كان الرد، وهذا هو سبب عدم مواءمة التعليم الذي حصلت عليه حينها، نعم نحن لا نتواءم مع متطلبات "العمال الأجانب"، وليس أننا لا نتواءم مع متطلبات "العمل" نفسه. فلقد فرض العمال الأجانب ثقافتهم على مناطق العمل لدينا، والجامعات لا تهتم بذلك.
في نقاش جاد في ورشة عمل عن سوق العمل السعودية قال أحدهم إن العمال الأجانب يغطون ما يقارب ستة ملايين عامل أجنبي في السعودية تقريبا، لكن المدهش في ذلك أن معظمهم (تقريبا) من ذوي المهارات البسيطة (Low-Skilled Workers)، وهذا يعني أن هذه الأعمال التي لا تحتاج إلى تعليم متقدم، بل تعليم أقل من الثانوي، وهذا يعني بكل وضوح أن الأعمال والمهارات التي يحتاج إليها الإنتاج في كثير جدا من المؤسسات العاملة والمصانع والشركات هي أعمال لا تتطلب مستويات عالية من التعليم، هذا واضح جدا من الأرقام. وإذا كانت المسألة بهذا الشكل فإن عدم مواءمة مخرجات التعليم لمتطلبات سوق العمل هي مقولة "حق أريد بها باطل"، فالأصل الواضح جدا، أن مخرجات التعليم أعلى من احتياج الشركات والمؤسسات التي توظف أكثر من أربعة ملايين عامل هم من فئة الأقل مهارة، والأقل تعليما.
اليوم الجامعات لديها أقسام متخصصة في المحاسبة وهناك 130 ألف محاسب أجنبي، مع ذلك فإن الجامعات لا تحقق متطلبات سوق العمل. هناك طابور من خريجي المحاسبة والتسويق والتمويل والموارد البشرية من الشباب والفتيات المميزات جدا، وأنا على اطلاع شخصي بكثير من السير الذاتية الرائعة جدا والتي تبحث عن فرصة عمل، وهنا الآلاف من خريجي الهندسة والكليات التقنية، وهناك خريجو كليات الأسنان والعلاج الطبيعي والمختبرات، والأشعة، ولو قادتك الظروف (في خير بإذن الله) لزيارة المستشفيات الخاصة فلن تجد سعودي يعمل على هذه الأجهزة، وهناك أربعة ملايين عامل أجنبي من ذوي المهارات الدنيا، والسبب أن الجامعات لا تتواءم مع سوق العمل، والمقصد أنها لا تتلاءم مع الأجانب في سوق العمل.
وأنا أقول إن مخرجات كهذا لن تتوافق مع سوق العمل. فالابتكار شعار واضح في التعليم لكنه ليس كذلك في سوق العمل، واللغة الإنجليزية المهنية شعار في الجامعات، لكن سوق العمل تعتمد لغة العمال. نعم فهناك فجوة بين الجامعات سوق العمل، فجوة صنعها عمال أقل مهارة من متطلبات الاقتصاد السعودي، الذي يسعى بكل قوة نحو عالم الذكاء الاصطناعي. ما أطلبه في هذا المقال هو التوقف مقولة "مخرجات الجامعات لا تتوافق مع سوق العمل".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي