بين الجودة وإدارة المخاطر في زمن كورونا

مع الأسف أصبحت عبارة التميز من أكثر العبارات استخداما في كل رؤية ورسالة لكل جهة ومؤسسة، ولا غبار على رغبتنا في التميز، لكن ضد ذلك التميز الذي يرتبط دائما بمفاهيم الجودة التي ترهقك بالمؤشرات المستهدفة. ترهقك، بمعنى أنها تستنزف مواردك وأصولك للوصول إلى هذا التميز المنشود، لكن هل هذا يتناسب في شكله ومضمونه مع النظرية الاقتصادية التي ترى أن المنافسة الكاملة تحقق الجودة؟ رغم أن المنافسة الكاملة ليست بهذه السهولة، لكن المعني المقصود هو أن البقاء في سوق المنافسة الكاملة يتطلب تميزا يضبط الإنفاق والتكاليف، ويضمن بقاء الطلب على المنتج، وهذا هو معيار الكفاءة والفاعلية، فإذا أنفقت كثيرا، فإن التكلفة ترتفع، وبذلك يرتفع سعر البيع، ما يخرج المنتج من السوق، لأن المستهلكين سيهربون إلى المنتجات الأقل سعرا، وإذا خفضت التكلفة بشكل حاد، انخفضت جودة المنتج بشكل يخرج المنتج من السوق لعدم مقابلته توقعات المستهلكين. وهكذا، فإن مفتاح التوازن والبقاء في السوق التنافسية هو، استمرار مراقبة سلوك التكلفة وسلوك المستهلكين. لكن توقعات المستهلكين ليست متسقة، بمعنى أن هناك مستويات لها، فهناك من يقبل بمواصفات معينة قد تكون أقل من غيرها، ولهذا يبحث الناس عن منتجات تتناسب مع مواصفاتهم وقدرتهم على الدفع، وهذا من صفات السوق الحرة التنافسية، ومثل ذلك مثل سوق السيارات، التي توجد فيها فئات مختلفة، وتتنافس الشركات عند كل فئة، وهذا يضمن حق المستهلك في الاختيار بين مستويات الجودة التي يريدها ويدفع في مقابلها. إذا كان هذا صحيحا في عالم الأسواق الحرة والمنافسة، فإن الواقع مختلف جدا في الجهات الحكومية التي تقدم خدماتها للمواطنين، لكن رغم هذا الاختلاف ومع دخول مفاهيم الجودة أصبحت الجهات تتسابق نحو تميز لا حدود واضحة له، وهذا هو فخ إدارة الجودة الذي وقعت فيه مؤسسات كثيرة، فالجودة كمفهوم، محكومة ومحدودة بالمنافسة، ومع عدم وجود سوق تنافسية، فإن الحديث عن الجودة يعد حديثا عن الهدر في الموارد، فمعيار التكلفة والعائد لا يمكن تطبيقه بشكل صحيح مع تطبيق مفاهيم الجودة الذي تذهب إليه المؤسسات في بناء خططها الاستراتيجية استنادا إلى مؤشرات التميز، وهو الذي يهدر الموارد بشكل خطير.
لإيضاح المقصود، فإن الجهات الحكومية محكومة بأمرين هما، تنظيم الجهة وحجم الأموال التي خصصت لها، وبينما المهام والأهداف واضحة ومحددة نظاما وبشكل صارم، أصبحت الخطط الاستراتيجية للجهات تذهب إلى عالم التميز الخيالي. وبينما الموارد محدودة، فإن استخداماتها تصبح فوضوية بسبب المنافسة بين الإدارات على الفوز بها، من خلال طرح تلك الإدارات مشاريع قد لا تكون لها علاقة بتحقيق مهام الجهة، لكنها تسعى إلى ذلك التميز الوهمي. وفي الوقت الذي تذهب مؤشرات الأداء لقياس رضا العميل، تجد الموظفين في الميدان لا علاقة لهم بكل هذا، لأنهم محكومون بنظام ولائحة للعمل غير آبهين بتلك الخطط أو المستهدفات أو حتى التميز، ذلك أن رضا العميل -في بعض الأحيان- هو مخالفة النظام. أثبتت جائحة كورونا بلا مجال للشك فيه، أن خطط التميز لم تتوقع أبدا حدوث الكارثة، لأنها لا تعرف مثل هذه التوقعات، ولا تعرف كيف تدخل مثل هذه التوقعات في بنية العمل، ولا تعرف الجودة ولا مؤشراتها كيف تمنع الاحتيال، ولا كيف يتم التعامل مع العميل المحتال الذي يستغل مفاهيم الجودة لتحقيق مطالب هي أكثر بكثير مما يستحقه، وهذا ما يسمى في عالم الطب العناية الأكثر من اللازمة Overcare. ومع مفاهيم وخط الجودة، فلا تعرف كيف يمكن للجهة تحديد الحد الفاصل بين العناية اللازمة Duecare وبين العناية الأكثر من اللازمة Overcare، فعند مستوى الجهات الحكومية التي تستخدم الأموال العامة لتقديم خدماتها وفي سوق غير تنافسية، فإن مستويات الجودة التي يجب أن تعمل عندها الجهة هي مستوى العناية الواجبة، ويجب بناء الخطط الاستراتيجية عند هذا المستوى، وأن تراعي الجهات حجم مواردها الاقتصادية ورضا مانحي الأموال، من خلال تحقيق الأهداف عند هذا المستوى من العناية، وليس للتميز معنى هنا إذا تميزت المؤسسة الحكومية في سوق غير تنافسية، فكما أشرت، فإن مثل هذا التميز والخطط المبنية عليه، تهدر الموارد بشكل خطير، بل يحدث تلاعب العملاء بالمؤشرات من خلال طلب العناية الفائقة دون وجه حق.
أثبتت جائحة كورونا أن مفاهيم وأدوات إدارة المخاطر هي الأنسب للجهات الحكومية، خاصة إذا استطاعت هذه الجهات أن توجه خططها من أجل السيطرة التامة على هذه المخاطر، ولا سيما المخاطر الاحتيالية، ومخاطر هدر الأموال التي يتسبب فيها الموردون الذين يعملون مع الجهة. وإذا كانت الجودة تتسبب في الهدر، فإن إدارة المخاطر تقود للمحافظة على المكتسبات، وإذا كانت الجودة تذهب للتميز ورضا العميل بشكل مطلق، فإن إدارة المخاطر تعمل على تحقيق العناية الواجبة وفقا لنظام ولوائح العمل، وبينما تفصل خطط الجودة بين المستويات الإدارية، فإن إدارة المخاطر تربط بشكل محكم بين خطوط السلطة وخطوط الحوكمة كافة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي