رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الترابط بين الذكاء والنجاح في دراسة أكاديمية

يحلو للإنسان، في كثير من الأحيان، أن ينظر إلى مدى الترابط بين صفة وصفة أخرى من صفات البشر، أو بين صفة ونتيجة، أو لعلنا نقول بين حالة وحالة أخرى. ومثال ذلك النظر إلى الترابط بين نتائج الطالب المدرسية من جهة، ونتائج أدائه في الحياة المهنية بعد ذلك من جهة أخرى، أو ربما بين مدى رحابة صدره من ناحية، ومستوى إمكاناته القيادية من ناحية أخرى، أو بين درجة صدقيته في طرف، ومدى نجاحه في تسويق السلع المختلفة في طرف آخر، أو غير ذلك من حالات أخرى عديدة. وقد يكون الترابط بين مثل هذه الصفات والنتائج إيجابيا بمعنى التوافق، كما قد يكون سلبيا بمعنى التنافر. وكثيرا ما تكون الآراء في مثل هذه الحالات آراء انطباعية تستند إلى ملاحظات شخصية، تتعلق بحالات محدودة، أي: لا تتمتع بالموثوقية المطلوبة. لذا يهتم كثير من الباحثين الأكاديميين بسلوك أساليب علمية في تقييم الترابط من أجل الابتعاد عن الانطباعية والاقتراب من الموضوعية وموثوقية النتائج. تعتمد الأساليب العلمية في تقييم الترابط بين حالات مختلفة على وضع عوامل قياس، أو مؤشرات، لكل من طرفي التقييم. ثم القيام بقياس مستوى كل من هذه العوامل أو المؤشرات لعينة كافية من مصادر البيانات، حيث يمكن التعبير بوضوح عن كل من حالتي الترابط المراد تقييمه. ويمكن عبر كل طرف من طرفي البيانات هذه، تحديد مدى الترابط، أي مستوى التوافق أو التنافر بين الطرفين، بموضوعية تحاول الابتعاد عن الانطباعية. وهناك وسائل رياضية موثوقة لتحديد هذا المدى من خلال البيانات، لعل أبرزها تلك العلاقة الرياضية المعروفة باسم معامل بيرسون Pearson التي وضعها الأكاديمي الفرنسي أوجيست بارافي Auguste Bravais في القرن الـ 19، عام 1844، ثم استخدمت بعد ذلك على نطاق واسع، حتى يومنا هذا.
تفيد معرفة مدى الترابط بين حالتين، تمت دراستهما في إطار عينة موثوقة، في تعزيز القدرة على التنبؤ بإحداهما عبر معرفة الأخرى. وتفيد أيضا كمرجعية للتحقق من دراسات مختلفة تضم في تكوينها حالات مشابهة، فضلا عن فائدتها الرئيسة في تعميق فهم العلاقة بين حالات مختلفة مطروحة للدراسة والبحث، إضافة إلى فوائد أخرى. في هذا المجال، نشرت جامعة تارتو Tartu في إستونيا Estonia، عام 2015، رسالة دكتوراه عنوانها العام "الذكاء والنجاح الاجتماعي والاقتصادي" قدمها تارمو سترنز Tarmo Strenze. وكان موضوع هذه الرسالة هو الترابط بين درجة ذكاء الإنسان الفرد من ناحية، ومستوى نجاحه الاقتصادي والاجتماعي من ناحية أخرى، وذلك من خلال مجموعة من العوامل. وتستخدم الدراسة معامل بيرسون لتحديد مدى الترابط بين الذكاء وعوامل النجاح المستهدف.
تعد جامعة تارتو في إستونيا من أوائل الجامعات الأوروبية، حيث أسست عام 1632 للميلاد، ويبلغ عدد طلابها حاليا نحو 15 ألف طالب وطالبة. وتقع إستونيا الدولة التي تنتمي الجامعة إليها شمال شرقي أوروبا، وكانت حتى عام 1991 للميلاد تابعة للاتحاد السوفياتي السابق وهي دولة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها المليون ونصف المليون نسمة، لكنها دولة مزدهرة اقتصاديا، حيث يصل الناتج الإجمالي المحلي للفرد إلى نحو 40 ألف دولار سنويا، أي إن الدراسة جرت في بيئة اقتصادية مريحة.
حددت الدراسة نظرتها إلى الذكاء من خلال التعريف الذي قدمته الأكاديمية ليندا جوتفريدسون Gottfredson الذي يقول التالي: "الذكاء هو قدرة ذهنية عامة، تتضمن: القدرة على إبداء الأسباب، والتخطيط، وحل المشكلات، والتفكير المجرد المرتبط بالمفاهيم العامة غير المادية، واستيعاب الأفكار المعقدة، والتعلم بسرعة، والتعلم من الخبرة ولا يعد التعلم من الكتب ذكاء، ولا المهارة في موضوع معين، ولا التميز في الاختبارات". ويتفق هذا التعريف ويختلف مع تعريفات أخرى للذكاء من قبل أكاديميين وعلماء آخرين. ويلاحظ أن ما يميز هذا التعريف هو أنه يرى الذكاء صفات عامة لا ترتبط بموضوع معين أو موهبة خاصة. ويمكن الاستفادة من هذه الخصائص في شتى نواحي الحياة، وليس في ناحية محددة فقط، ولعل هذا ما شجع صاحب الدراسة على أخذ هذا المفهوم في الحسبان.
وضعت الدراسة 35 عاملا لتقييم النجاح الاجتماعي والاقتصادي، واهتمت بمستوى ترابط كل من عوامل التقييم هذه مع الذكاء. وبالطبع اختلفت نتائج المستويات بين عامل وآخر، ولعلنا نستعرض هنا بعض الأمثلة في إطار أربعة مستويات من الأعلى إلى الأدنى. فقد تضمنت عوامل المستوى الأول، أي الأكثر ارتباطا مع الذكاء كلا من: الإنجاز التعليمي، والأداء الوظيفي، واكتساب المهارات. وشملت عوامل المستوى الثاني التي تلت ذلك: قيادة المجموعات، والعمل التطوعي، والدخل. وجاء بعد ذلك المستوى الثالث الذي تضمن عوامل مثل: الثقة بالنفس، والإبداع، واكتساب محبة الآخرين. وفي المستوى الرابع برزت عوامل مثل: النجاح في إجراء المفاوضات، وتحقيق السعادة، وغير ذلك.
قدمت دراسة الترابط بين الذكاء والنجاح الاقتصادي والاجتماعي المطروحة أعلاه رؤيتها للذكاء على أنه صفات عامة لمختلف موضوعات الحياة وليست صفات خاصة بموضوعات محددة، وهي في ذلك تتفق وتختلف مع رؤى أخرى. وأعطت بعد ذلك تحليلها لعوامل النجاح الاقتصادي والاجتماعي، وهذه بدورها خاضعة للاتفاق والاختلاف وربما الإضافة والاستبعاد أيضا. ثم طرحت الدراسة مدى الترابط بين الذكاء الذي رأته والعوامل التي أعطتها، وخلصت إلى بعض النتائج المفيدة. ولعل الإنجاز الذي قدمته في ذلك يتمثل في تعميق فهم بعض خصائص الذكاء، وعوامل النجاح الاقتصادي والاجتماعي، والترابط فيما بينها، ولو أن هذا التعميق لم يكن شاملا، بل كان أي حال مفيدا ومحفزا لدراسات متجددة في المستقبل.
لا شك أن الشمولية في المعرفة عموما، وفي المعرفة في قضايا الإنسان خصوصا، طموح مشروع، لكنها تحمل غاية لا تدرك. وتبقى حقيقة أن في دراسة المشكلات المطروحة في شتى الموضوعات، والتعرف على جوانبها المختلفة، وفهم الترابط فيما بينها، واكتشاف أعماقها، وتوجيه السلوك بشأنها، متعة وفائدة كبيرة للعقل البشري في كل زمان ومكان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي