الإنسان ومسيرته نحو الابتكار

عندما نراقب الأطفال، وقد كان الجميع كذلك يوما، نلاحظ أنهم أكثر وعيا مما نتوقع. يفكرون تفكيرا نراه تلقائيا، يسألون ويبحثون، ويطالبون ويعطون، وأحيانا يراوغون، ويتشددون في أمور ويتساهلون، ويقبلون ما يعرض عليهم وقد يرفضون، ويقتربون من الآخرين حينا ويبتعدون، ويشغفون بموضوع أو ينفرون، كل ذلك، حتى قبل انقضاء العام الثاني من العمر. الأفعال وردود الأفعال هذه هي جزء من فطرة الإنسان وتكوينه الذي أراده الله له، وهي دليل على أن الإنسان يتمتع، منذ ولادته، بخصائص التفكير، والتعامل مع الآخرين، ووضع أهداف مطلوبة، والسعي إلى تحقيقها. العمليات الذهنية والنشاطات الإدراكية ومهارات الملاحظة والخبرة والتعامل الإنساني في هذه الخصائص قابلة للنمو، بل للتنمية أيضا. ولا شك أن كل ما نجده من حولنا من علوم وتقنية وأفكار ومعارف، ما هو إلا حصيلة نمو هذه الخصائص وتنميتها في الناس وتراكمها عبر العصور، وفي مختلف بقاع الأرض.
يتأثر عطاء الإنسان عبر حياته بمدى نمو وتنمية خصائص فطرته الذهنية ونشاطاته الإدراكية ومهاراته الإنسانية، ويزداد عطاؤه ويثمر مع تطورها. لكن هذا التطور يتأثر بدوره ببيئة حياة الإنسان التي قد تفعل نمو هذه الخصائص وتهتم بتنميتها، أو قد تحبطها وتحد إمكاناتها. وعلى ذلك، فإذا كان المطلوب هو تعزيز عطاء الإنسان الذي يعود عليه بالنفع، وبالتالي على مجتمعه أيضا، وربما على العالم بأسره، فإن الطريق إلى ذلك يتمثل في الاهتمام بشؤون البيئة من حوله، عبر رحلته مع الحياة، لتكون بيئة نمو وتنمية لخصائص فطرته، لأنها وسيلة لتفعيل الابتكار وتقديم فوائد جديدة أو متجددة تحمل قيمة يحتاج إليها المجتمع، أو تستجيب لمتطلبات كامنة ترضيه ويتطلع إليها.
الابتكار، في جوهره فكرة، على أن تكون قابلة للتطبيق والاستخدام وإعطاء قيمة. ويقدم الإنسان الفكرة عبر التفكير ونشاطاته الإدراكية. والفكرة معرفة، لذا ينصح العالم الشهير، ألبرت أينشتاين Albert Einstein، بالشغف بالمعرفة، لأن ذلك يفعل التفكير، ويؤدي إلى بحث متواصل عن المعرفة والأفكار الجديدة والمتجددة، غير المسبوقة. لكن الفكرة لا تصبح ابتكارا إلا بعد نجاحها في التطبيق، ولا يتحقق هذا النجاح إلا بمهارات التحقق وإجراء التجارب، فإن فشلت هذه التجارب، يكون لا بد من تعديل الفكرة أو تغييرها، لتستعد الفكرة الأحدث إلى تجربة أخرى يؤمل أن تحقق النجاح المطلوب، لتصبح بذلك الابتكار المنشود. وليس الابتكار الذي يعطي قيمة هو ذاك الذي ينتمي إلى المجالات العلمية والتقنية فقط، حيث الأجهزة والوسائل غير المسبوقة، بل قد ينتمي إلى المجالات الاجتماعية أيضا، حيث يقدم حلولا متميزة للمشكلات الاجتماعية في مختلف المجالات، كالمجال الصحي، والتعليمي، والاقتصادي، والإداري، وغير ذلك.
وفي سبيل تعزيز الابتكار والاستفادة من معطياته العلمية والتقنية والاجتماعية التي تحمل قيمة للمجتمع، لا بد من توفير البيئة اللازمة لنمو خصائص الإنسان الذهنية ونشاطاته الإدراكية ومهاراته الإنسانية، مع الحرص على تنميتها، وذلك عبر حياته ليست المهنية فقط، بل حياته كلها ابتداء من النشأة الأولى إلى جانب أبويه وما بعد ذلك. أي: إن الأمر يحتاج إلى التركيز على المعرفة في الحياة واكتسابها والشغف فيها من جهة، وممارسة التفكير وتعميق الفهم وإطلاق الأفكار، والتعود على اختبارها، وتقييم تكاليفها، ونشرها وتعميم فوائدها، والاستفادة منها من جهة ثانية.
يتأثر الإنسان عبر حياته بأكثر من بيئة، كل منها ترافقه في فترة من فترات العمر، والنضج الإنساني الذي يصل إليه في كل منها. هناك في البداية بيئة نشأة الإنسان بين أبويه والأسرة من حوله. ثم هناك بيئة التعليم بشتى مراحله ومعطياته المعرفية النظرية منها والتطبيقية. وتأتي بعد ذلك بيئة المؤسسة التي يعمل فيها، أي بيئة حياته المهنية التي قد تتغير عندما يتنقل في أعماله بين مؤسسة وأخرى. ثم هناك بيئتان محيطتان بكل ذلك هما بيئة المجتمع المحلي وبيئة المجتمع الدولي، ولكل منهما تأثير متزايد مع التقدم المطرد في التحول الرقمي، وتنفيذ كثير من النشاطات المهنية والاجتماعية والشخصية عبر الفضاء السيبراني.
لا شك أن الابتكار متطلب رئيس من متطلبات التنمية في هذا العصر، الذي بات يعرف بعصر الثورة الصناعية الرابعة، ويشهد تنافسا وسباقا على تقديم كل ما هو جديد ومتجدد ويحمل قيمة. وليس هذا الأمر محدودا باليوم أو الغد، بل هو لمستقبل مفتوح، لا يبدو أن له حدودا زمنية. ولا شك أن على أصحاب الطموح الاستعداد لهذا المستقبل والاهتمام ببناء بيئة ابتكار مناسبة توفر الإمكانات اللازمة لنمو وتنمية قدرات الإنسان الذهنية ونشاطاته الإدراكية ومهاراته الكامنة، والسعي إلى تفعيلها وإطلاق عطائها، والاستثمار فيه، والاستفادة منها على أفضل وجه ممكن.
يخضع الإنسان، في رحلته مع الحياة كما أسلفنا، لأكثر من بيئة: بيئة النشأة، وبيئة التعليم، وبيئة العمل المهني، ثم بيئة المجتمع، وبيئة العالم اللتين تحيطان بتلك البيئات الثلاث. ولا بد من السعي إلى التأثير في كل من هذه البيئات بهدف تأمين نمو وتنمية قدرات الإنسان الذهنية ونشاطاته الإدراكية ومهاراته الكامنة نحو الابتكار والاستثمار والمنافسة ودخول سباق التقدم والتميز في هذا العصر. ويختلف نطاق القدرة على التأثير بين بيئة وأخرى، كما يختلف أيضا المدى الزمني اللازم لهذا التأثير، لكنه أمر حيوي للمستقبل لا بد من التفكير فيه.
يحتاج العمل على تفعيل الابتكار، من كل أسرة، إلى بيئة أسرية مناسبة لنمو وتنمية إمكانات أبنائها الذهنية ونشاطاتهم الإدراكية ومهاراتهم في الملاحظة واكتساب الخبرة والتعامل مع الآخرين. ويحتاج، من مؤسسات التعليم، إلى بيئة تعليمية تتبنى مناهج وأساليب متجددة تعزز ذلك وتبتعد عن التعليم التلقيني لمصلحة التعليم التفاعلي المحفز للتفكير والتجديد. كما يحتاج، من المؤسسات المهنية، إلى بيئة مهنية تهتم بالابتكار والتجديد والاستثمار في ذلك. ثم يحتاج، من المؤسسات الثقافية والإعلامية، إلى بيئة مشجعة للابتكار وداعمة له على مستوى المجتمع. ويحتاج أخيرا إلى التفاعل مع البيئة العالمية تنافسا وتعاونا، وإسهاما في معطيات الحضارة الإنسانية الحديثة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي