الأعداد .. حجر صوان أضاء التاريخ البشري
نستخدم الأعداد في الحياة اليومية، بشكل تلقائي، دون أي تفكير أو تأمل في أصل الفكرة، فاختراع الأعداد شكل ثورة إدراكية وسلوكية، لا تقل أهمية عن اختراع اللغة، في مسار التاريخ البشري. لكن إدراك حجم إسهام الأدوات التي تدعى الأعداد في إعادة تشكيل الخبرة البشرية ظل متأخرا جدا، فالاهتمام بهذه الرموز التي أسهمت في تميز النوع البشري لم يحظ بالتقدير الكافي في مجال البحث.
كانت جميع الثقافات البشرية ثقافات لا عددية، على مدار الجزء الأكبر من التاريخ البشري. لكن لحظة ابتكار العقل البشري للأعداد، والقدرة على التمثيل اللفظي والرمزي للكميات بواسطة الأعداد، غيّر أحوال البشر تغييرا جذريا، وشكّل هذا الاكتشاف المذهل حجر صوان أضاء التاريخ البشري.
أضفى هذا الاختراع معنى على أسئلة من قبيل: كم عمرك؟ وكم طولك؟ وكم وزنك؟ وما طول المسافة؟.. بعد أن كانت أسئلة عديمة الجدوى، في عالم بلا أعداد. فلا تمكن صياغة هذه الأسئلة، ولا بلورة إجابات محتملة عنها، في ثقافات ومجتمعات لا عددية.
تاريخيا، لا تقوى ثقافة أو حضارة على نسبة اختراع الأعداد إليها، فكتب التاريخ المدون توثق لأكثر من مائة نظام مسجل لتدوين الأعداد، معظمها عبارة عن تطوير وتحيين لأنظمة سابقة. بذلك يكون مبدأ التحديث قاعدة حاكمة لصيرورة أنظمة الأعداد في التاريخ، فنظام الترقيم الغربي في الواقع معدل عن نظام الترقيم العربي، الذي بدوره من أحد الأنظمة التي تطورت في بلاد الهند.
لا تفيدنا المصادر التاريخية كثيرا في تحديد مكان ظهور الأعداد لأول مرة، فالاتجاه السائد بين الباحثين، يعد للأرقام دورا أساسيا في بدايات تطور الكتابة. لكنه في الوقت ذاته، لا يقبل عدّها اختراعا خاصا بمنطقة الشرق الأوسط فقط. إذ يؤكد أن أنظمة عددية أخرى قد تطورت بصورة مستقلة في الصين وأمريكا الوسطى وإفريقيا.
ثمة قدر كبير من الاختلاف بين الأنظمة العددية التي تطورت في مناطق مختلفة، وشكل الأساس "2" أو الأساس "5" أو الأساس "10" أو الأساس "20" جوهر معظم هذه الأنظمة، ما يعني أن البشر في جل الحضارات، يميلون إلى الاعتماد على أيديهم عند تشكيل كلمات للأعداد، ويثبت بالتالي فرضية أن الجسم البشري كان الأساس لمعظم الأنظمة في الترقيم، فليس من المصادفة أن البشر يمتلكون خمس أصابع في كل يد، وعشر أصابع في كلتا اليدين، و20 إصبعا في اليدين والقدمين.
لكن الأساس "10" يبقى مهيمنا على هذه الأنظمة عبر التاريخ، ففي دراسة حديثة أجريت على 190 لغة، تنتمي إلى مختلف العائلات اللغوية والمناطق الجغرافية، اكتشف برناد كومري عالم اللغويات أن 125 من هذه اللغات تستخدم أساسا عشريا خالصا للكميات التي تزيد على العشرة. تعزز هذه الفكرة نظرة سريعة على معظم اللغات المعاصرة، حيث تعكس بشكل أو آخر، وجود النظام العشري، فبناء العدد 17 مثلا، في العربية والأمازيغية والفرنسية والإنجليزية يفرض إضافة 7 إلى 10، وحتى الأعداد الكبيرة عادة ما تبنى على العدد "10"، ما يعني أن كبرى عائلات اللغات في العالم، تعكس التأثير المتغلغل للنظام العشري.
إلى جانب الأسس السابقة "2 و5 و10 و20"، توجد في بعض الثقافات أساسات أخرى، منها: الثلاثي "3" والرباعي "4" والسداسي "6" والثماني "8" والتساعي "9". علاوة على تفرد حضارات باستخدام الأساس الاثني عشري "12"، وأخرى بالأساس الستيني "60"، وهذا السر وراء تقسيم الساعات إلى دقائق، والدقائق إلى ثوان.
إن اختراع الأعداد متأصل في أجسادنا، ثم في أصابعنا التي مكنتنا من اشتقاق رموز مجردة تماما للتعبير عن الكميات، وهي مفردات الأعداد. وهذه الرموز المجردة يمكن أن تنتقل إلى الجماعات البشرية، وفيما بينها تُتعلمَ بسهولة اعتمادا على جسد الإنسان. وقد كان هذا الأخير سببا في ظهور أنظمة عددية نادرة، فالأساس الثماني "8"، على سبيل المثال، يعتمد على الفراغات الموجودة بين أصابع اليدين، بينما يستند الأساس الاثنا عشري "12" إلى وجود 12 خطا متجاورا على أصابع اليد الواحدة، فيما عدا الإبهام.
من غريب البحث في الأعداد لدى الشعوب الغابرة أن قبيلة الجاراوا في جزر أندمان في المحيط الهندي، لهم نظام عددي يعتمد على العدد "2" واليد "5". فللدلالة على العدد "7" مثلا، يقال "يد" مع زوجين، أي 5 مع 2، وللتعبير عن العدد "10" يقال "يدين"، "5 و5". كما أن هناك لغات قديمة تستخدم أنظمة عددية، وفقا لنوع الشيء المراد عدّه، فالكلمة التي تشير إلى العدد مائة هي "بولا" عند عد الزوارق، لكنها تصبح "كورو" عندما يكون المعدود جوز الهند.
يبقى المدهش حقا، هو أن لغة البيراها، المنشرة على ضفاف نهر مايسي في غابات الأمازون في البرازيل، لغة منطوقة لا تتضمن أي مصطلحات محددة للأعداد، بما في ذلك العدد واحد. في المقابل استخدم قدماء اليونان نظاما أبجديا يطابق النظام العددي، حيث يتكون من نحو 24 حرفا تمثل قيما مختلفة. كما أن الأعداد الكبيرة لدى معظم الشعوب والأمم، نادرة نسبيا في الحديث الفعلي، وهي أقل انتشارا في لغات العالم. فبينما تتضمن معظم اللغات نظاما من الأعداد الأساسية، فإنها لا تتضمن عادة كلمات تعبر عن الكميات التي تتعدى مائة أو مائتين.
يبدو أن أجسامنا تؤدي دورا بارزا في أنماط تفكيرنا، وفي كيفية فهم العالم من حولنا، فالجميع استخدم تقنية الأصابع لتعلم العد في الصغر، ولا يزال كثيرون يفعلون ذلك في بعض الأحيان. ويتضح هذا التأثير الجسدي في التفكير في كثير من الأبحاث الحالية في علم الإدراك. كل هذا يدفعنا إلى القول إن البشرية لا يزال أمامها كثير من الأبحاث، قبل أن نفهم الدور الذي قامت به اللغة العددية، في تشكيل الإدراك الرياضي لدى الأغلبية العظمى من البشر الذين يعيشون اليوم.