الجامعة كمنظومة عمل .. ونظرة إلى المستقبل

لا شك أن للجامعات دورا حيويا في بناء المجتمعات وتحديث إمكاناتها والإسهام في الحضارة الإنسانية. في هذا المجال قال الأكاديمي الراحل فرانك رودس Frank Rhodes: إن التعليم العالي وسيلة كامنة وحاسمة لبناء المجتمعات الحديثة. ولصاحب هذا القول سجل جامعي حافل، فقد قاد جامعة كورنيل Cornel الشهيرة، أحد أهم جامعات العالم، مدة 18 عاما، بدأت عام 1977 وانتهت عام 1995. ثم كان بعد ذلك مستشارا لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، عندما كانت قيد التأسيس عام 2006، وعضوا في مجلس أمنائها عند إنشائها عام 2009. وإذا نظرنا إلى ما حولنا لوجدنا، تأكيدا عمليا لهذا القول، فقد أسهمت جامعات المملكة، على مدى عقود، في بناء المجتمع الحديث الذي نعيش فيه، وتمكين معطياته ونشاطاته وخدماته التي باتت تحيط بمختلف شؤون الحياة.
يلقي هذا المقال الضوء على الجامعة بتكوينها العام، عبر النظر إليها كمنظومة عمل، محاولا توضيح دورها الحيوي في المجتمع، وطرح متطلبات هذا الدور ومعطياته، والتحديات التي يواجهها. وغاية ذلك هي إبراز مرتكزات تطوير هذا الدور نحو مزيد من الاستجابة للمتغيرات، والسعي إلى تفعيل الاستفادة منه على أفضل وجه ممكن. ويشمل النظر إلى الجامعة كمنظومة عمل أربعة أبعاد رئيسة تتضمن: بعد مدخلات المنظومة، أي مدخلات الجامعة، وبعد عمل الجامعة ونشاطاتها أو الوظائف التي تقوم الجامعة بها، وبعد المخرجات التي تقدمها، ثم بعد المراجعة والتقييم والتوجيه لكل ما يجري في الجامعة، من أجل ضبط مسيرة عطائها، وتحديثها، وتقويمها عند الحاجة، وتفعيل نشاطاتها نحو مزيد من التميز في خدمة المجتمع المحلي من حولها أولا، ثم المجتمع الإنساني بأسره بعد ذلك أيضا.
إذا بدأنا بطرح بعد مدخلات الجامعة الذي يدفعها إلى العمل وتمكنها منه، نجد أن لهذه المدخلات ثلاثة محاور رئيسة هي: المحور البشري، ومحور مصادر التمكين المادي، ثم محور أنظمة الحوكمة المطلوب اتباعها في إدارة شؤونها. يتضمن المحور البشري ثلاثة مصادر رئيسة: أولها الأكاديميون من أعضاء هيئة التدريس والباحثين، وهم أصحاب المسؤولية المعرفية في الجامعة، وثانيها الطلاب والطالبات، وهم، إذا جاز التعبير، المادة الخام الرئيسة في الجامعة التي يطلب تمكينها معرفيا، وثالثها الإداريون أصحاب المسؤولية الإدارية عن عمل النشاطات المختلفة التي تقوم الجامعة بها. وبالطبع يتمتع المحور البشري بأهمية كبيرة في أداء الجامعة، لكنه ليس مستقلا، وإنما يعتمد على المحورين الآخرين.
إذا نظرنا إلى محور التمكين المادي، نجد أن له ثلاثة مصادر أيضا تختلف في حجمها تبعا لطبيعة الجامعة. وتشمل هذه المصادر: الميزانية أو المساعدة الحكومية المقررة للجامعة، ودخل الجامعة من الرسوم الدراسية وإيرادات النشاطات المعرفية المختلفة الأخرى التي تقوم بها، ثم دخلها من الأوقاف التي تملكها والتبرعات التي تأتيها من خريجيها السابقين وغيرهم. ولا شك أن التمكين المادي ضرورة لعمل الجامعة وتفعيل دورها في المجتمع من جهة، ولا شك أيضا أنها تستطيع العمل على جذب مزيد من هذا التمكين وتفعيله والاستفادة منه على أفضل وجه ممكن من جهة أخرى.
ونصل في إطار مدخلات الجامعة إلى محور أنظمة الحوكمة التي تتبعها الجامعة في تنفيذ أعمالها. وترتبط هذه الأنظمة بعوامل عدة تتضمن: أنظمة التعليم العالي في بلد الجامعة وتشريعاتها، ومدى استقلالية الجامعة في وضع أنظمة خاصة بها، ورؤية إدارتها وتطلعاتها، وأولويات التميز التي تنشدها، وخطط الأداء والمنافسة مع الآخرين، وغير ذلك من أنظمة وتوجهات وإجراءات في تنفيذ النشاطات المختلفة. وتتمتع أنظمة حوكمة أي جامعة بأثر كبير في أدائها، فهي عامل تفعيل لأداء متميز، إن حسنت، أو هي ربما عامل إعاقة، إن لم تكن كذلك.
ومن بعد المدخلات، ننتقل إلى بعد نشاطات الجامعة المرتبطة بالمدخلات، حيث تقوم مصادر المحور البشري بهذه النشاطات في إطار معطيات التمكين المادي وتشريعات الحوكمة وتطلعاتها. وينظر إلى هذه النشاطات عادة على أنها ترتبط بثلاث مهمات رئيسة هي: التعليم والتدريب، والبحث العلمي، والتفاعل المتواصل مع متطلبات المجتمع، بما يشمل تقديم المشورة، والتعليم المستمر، ونقل المعرفة التقنية وغير التقنية المفيدة إلى مؤسسات المجتمع المختلفة. ولا بد لهذه المهمات، كي تؤدي واجبها المنشود، من الاستجابة لمتطلبات المجتمع وتغيراته، ومن متابعة المستجدات العالمية ومواكبة معطيات العصر، إضافة إلى العمل على الإسهام في هذه المعطيات، والسعي إلى الاستفادة من ذلك.
ونأتي إلى بعد المخرجات التي تفرزها النشاطات المستندة إلى المدخلات. تشمل هذه المخرجات ثلاثة عناصر رئيسة: أولها خريج الجامعة، وهو العنصر الحي الذي يقدم ما اكتسبه في الجامعة إلى المجتمع، ولا شك أن عليه أن يسعى إلى التعلم مدى الحياة LLL، كي يكون قادرا على الاستجابة للمتغيرات والتعامل مع المعطيات والإسهام فيها. أما العنصر الثاني من المخرجات فهو المعرفة الجديدة أو المتجددة الناتجة عن البحث العلمي، ويجب أن تكون قابلة للتطبيق وتقديم الفوائد على كل من المديين الأقرب والأبعد أيضا. ويأتي العنصر الثالث للمخرجات بعد ذلك، ليتضمن عنصر الشراكة في العمل مع مؤسسات المجتمع على تعزيز إمكانات الخريج في خدمة هذه المؤسسات من جهة، وتعزيز توظيف المعرفة الجديدة والمتجددة من خلالها، وتفعيل التواصل المستمر معها.
ونصل في الختام إلى بعد الجامعة الرابع، وهو بعد المراجعة والتقييم والتوجيه، وهو البعد المسؤول عن رفد الجامعة بما يلزم كي تحافظ على خط عطاء متميز متواصل، يتناسب مع المتطلبات والمتغيرات، ويكون قادرا على المنافسة في مسيرة الجامعة المتجددة نحو المستقبل. وكي يستطيع هذا البعد تحقيق ذلك عليه مراجعة محاور المدخلات الثلاثة: المحور البشري، ومحور التمكين المادي، ومحور أنظمة الحوكمة، ومهمات الجامعة الثلاث: التعليم والتدريب، والبحث العلمي، والتواصل مع المجتمع، وعناصر المخرجات الثلاثة: الخريج المتميز، والمعرفة المتجددة، والشراكة الفاعلة مع المجتمع. ثم عليه تقويم ذلك على ضوء تغير المتطلبات وتجدد المعطيات، إضافة إلى التوجه أخيرا نحو ضبط المسيرة نحو الاتجاه الأفضل الذي يحقق التنمية الوطنية ويعزز استدامتها، ويسهم في معطيات العصر على مستوى العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي