رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


المعلم أمام جيل أذكى

تعيش الأجيال الجديدة في بيئة معرفية مختلفة عن البيئة المعرفية التي أحاطت بالأجيال التي سبقتها. فحجم المعرفة يشهد ازديادا مطردا مع التقدم العلمي والتقني والتنافس الاقتصادي على الابتكار وتقديم منتجات غير مسبوقة. كما أن التعليم يتوسع أفقيا منتشرا في كل مكان، ويتعمق علميا وتقنيا، ويحرص بصورة متزايدة على الموضوعات الأربعة - العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات STEM. ويضاف إلى ذلك أيضا توجه التعليم نحو التفكير والمشاركة، وعدم الاكتفاء بالتعليم التلقيني وحيد الاتجاه. ثم هناك بعد ذلك الإتاحة الواسعة للمعرفة وتجددها، والتعليم وانتشاره عبر الإنترنت وفضائه السيبراني.
حول الأجيال الجديدة وبيئة المعرفة المتطورة تقول الباحثة أليسون جوبنك Alison Gopnik: ارتفع معدل الذكاء بشكل واضح مع تغير بيئة الحياة، ثم تضيف أيضا بشأن تغير بيئة الحياة: أصبح الناس يقضون فترة أطول في التعليم. ويتضمن الذكاء، بمفهومه العام ثلاث خصائص رئيسة، تبعا لما يطرحه الباحث سي جورج بوري C. George Boeree. وتشمل هذه الخصائص مدى القدرة على كل من: التعلم واكتساب المعرفة Knowledge Acquisition، والتحليل الفكري Abstract Reasoning للموضوعات المختلفة، وإيجاد الحلول للمشكلات المطروحة Problem Solving. وبالطبع هناك أيضا الذكاء بمفاهيمه الخاصة التي تميز هذا الإنسان أو ذاك كصاحب موهبة في موضوع معين أو أكثر، كما يرد عادة في تصنيفات الذكاء والمواهب المختلفة التي تحدثنا عنها في مقالات سابقة.
تتوافق خصائص الذكاء بمفهومه العام مع ما ذكرناه في المقال السابق بشأن العمليات الذهنية Mental Operations التي ميز الله تعالى بها العقل البشري. فقد شملت هذه العمليات: عملية التعرف Apprehension التي تتوافق مع التعلم، وعملية تحديد صفات Judgment المسائل المطروحة التي تتوافق مع التحليل الفكري، وعملية استخلاص النتائج Inference التي تتوافق مع إيجاد الحلول. أي إن كل إنسان يتمتع، عبر العمليات الذهنية لعقله البشري، بخصائص الذكاء العام، وأن الارتقاء بإمكاناته في كل منها ممكن، ويعتمد على الاهتمام بتنميتها. ويسعى التعليم الحديث إلى تنمية هذه الخصائص الثلاث. كما أن البيئة المناسبة لهذه التنمية متاحة، وتتمثل في توافر المعرفة على نطاق واسع خصوصا عبر الفضاء السيبراني من جهة، إضافة إلى التحفيز الناتج عن المنافسة المتزايدة على الإبداع والابتكار في المجالات المختلفة من جهة أخرى.
نحن إذن أمام أجيال متجددة يتنامى الذكاء فيها، وتحتاج إلى المعلم المتجدد المناسب الذي يتمتع بمزايا لم تكن مطلوبة في معلمي الأجيال السابقة. أمام مسألة البحث عن المعلم المناسب للأجيال المتجددة الأذكى، سنعود في هذا المقال إلى دراسة سابقة أجرتها، قبل أعوام، الباحثة ليندا سيلفرمان Linda Silverman حول خصائص معلم الموهوبين. والموهوبون، بناء على ما سبق، هم الذين يتمتعون بتكوينهم الطبيعي، أو بالاهتمام والاكتساب، بإمكانات متقدمة في قدرات التعلم والتحليل واستنباط نتائج مفيدة في موضوع واحد أو أكثر.
تنقسم الدراسة إلى جانبين رئيسين: أولهما تحديد الصفات العامة لمعلم أصحاب الإمكانات المتقدمة من خلال دراسة حقلية تجمع آراء الخبراء والمختصين في هذا المجال. وثانيهما تعريف الطلاب، أصحاب الإمكانات المتقدمة أنفسهم، لخصائص المدرس الذين يفضلونه، مع تحديد أولويات لهذه الخصائص، عبر دراسة حقلية أيضا تجمع آراء هؤلاء.
تقول نتائج الجانب الأول المرتبط بما يراه الخبراء والمختصون: إن هناك صفات متعددة للمعلم المطلوب. وتتضمن هذه الصفات التالي: أن ينعم بمستوى مرتفع من الذكاء في مفهومه العام، ويحظى بحب التعلم الذاتي والمستمر دون انقطاع، ويكون مرنا وقادرا على تقديم أفكار جديدة، ويتمتع بالثقة بالنفس، بالطبع دون غرور، ويكون متعدد الاهتمامات، ويتمتع بحس الدعابة، وكذلك حس العدل مقرونا بسعة الصدر وحسن اتخاذ القرار، ويكون متعاطفا مع الطلاب وإلى جانبهم، وألا يعد التعامل معهم عبئا عليه، ويستوعب دوره الشخصي في خدمتهم، ويرى أن هذا الدور يتضمن تمكين قدرات الطلاب وتنميتها وتفعيلها، ولا يشمل سلطة تمارس عليهم، ويكون متحمسا ومستعدا لبذل الجهد والوقت من أجلهم.
ولا تختلف خصائص المعلم، كما يريده الطلاب، كثيرا عن الصفات سابقة الذكر، إلا بإضافات محدودة تعوض بعض النواقص. لكن هذه الخصائص تتميز بأن لها أولويات، وأنها مرتبة بتسلسل يعبر عنها. وتمثل الأولويات عموما أوزانا للأهمية، فالخاصية التي تأتي أولا تتمتع بالأولوية الأولى وتحظى بالأهمية الأولى في متطلبات التنفيذ. وتشمل الخصائص الناتجة في هذا المجال التالي، مرتبة تبعا لأولوياتها. ترى الخاصية الأولى أن يكون المعلم مشرفا ومرشدا للطلاب بعيدا عن التسلط، وترى الثانية أن يكون ممكنا ومفعلا لإمكاناتهم، وترى الثالثة أن يكون حرا من القيود الخارجية ويتمتع بالصلاحيات التي يحتاج إليها. ثم ترى الخصائص التالية لذلك أن يكون مؤهلا سيكولوجيا للتعامل مع الطلاب ومصادقتهم، ومبدعا ومتجددا في عمله معهم، وواسع النظرة إلى الأمور من حوله، ومتعدد الاهتمامات، ومقيما عادلا غير منحاز، ومدرسا جيدا، و متحمسا للعمل وسريعا في الاستجابة للمتطلبات.
لا شك أننا أمام عصر جديد حافل بالمتغيرات. إمكانات وتطبيقات تقنية غير مسبوقة وصلت إلى تحدي بعض صفات العقل البشري عبر الذكاء الاصطناعي، أو ربما بتعبير: آخر قدمت صفات أعطت امتدادا جديدا ومؤثرا لهذا العقل في مجالات كثيرة. ويضاف إلى ذلك بيئة معرفية وسيلتها الفضاء السيبراني، حيث تتضخم المعلومات، ويستمر التواصل وتختلط المضامين بين الغث والسمين. ثم تنافس متعاظم في شتى المجالات على تقديم منجزات تتضمن مبتكرات فريدة جاذبة للسوق ومحركة للاقتصاد، وغير ذلك من متغيرات.
أمام كل هذه المتغيرات، تحتاج الأجيال المتجددة التي توصف بالأذكى، أو ربما الأكثر وعيا وخبرة من الأجيال التي سبقتها، إلى تعليم جديد يهتم بالتفكير، ولا يستسلم للتلقين، ويحرص على طرح التساؤلات التي تعزز الفهم، والتمييز، واستخلاص النتائج. ولا شك أن المعلم هو المسؤول الأول عن هذا التعليم، هو الذي نريده حاملا للصفات والخصائص المأمولة، وبالطبع ضمن إطار يحوطه مكارم الأخلاق المطلوبة لكل زمان، وفي كل مكان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي