النهب الثقافي .. جروح غائرة في ذاكرة الشعوب

النهب الثقافي .. جروح غائرة في ذاكرة الشعوب
جانب مهم من الصرح الثقافي الغربي المحتفى به اليوم لا سند ولا أصول ولا وثائق تثبت ملكيته.
النهب الثقافي .. جروح غائرة في ذاكرة الشعوب
أي هوية يراد بناؤها لدى الأجيال الصاعدة في غياب التاريخ.

صادق البرلمان الفرنسي في الأسابيع الماضية على إعادة أصول ثقافية لكل من السنغال وبنين، تنفيذا لتعهد سابق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان قدمه قبل عامين في جولة إلى دول إفريقيا الغربية، لكن الجمعية الوطنية الفرنسية بالموازاة مع ذلك، رفضت اقتراح تشكيل لجنة لدراسة مزيد من الطلبات المماثلة، بشأن إعادة التراث الثقافي المنهوب إلى دوله الأصلية.
يعيد هذا القرار فتح جروح غائرة في ذاكرة شعوب المستعمرات، فالقسط الأكبر من الممتلكات الثقافية والأعمال الفنية التي تزين متاحف ومكتبات وأرشيف القوى الاستعمارية نتاج قرصنة وسرقة الدول الأوروبية تاريخ وإرث بقية دول العالم، فجانب مهم مما يشكل الصرح الثقافي الغربي المحتفى به اليوم، لا سند ولا أصول ولا وثائق تثبت ملكيته.
تجاوز الاستعمار النهب الاقتصادي للخيرات والثروات نحو "الاستعمار الثقافي"، ممثلا في نهب ثقافات وتراث الشعوب المستضعفة، وقد استغلت الظروف المضطربة في هذه الدول قصد سرقة كنوز ونفائس لا تقدر بثمن، من شعوب ضعيفة مغلوبة على أمرها. حاول كثيرون تجميل هذا السلوك الشنيع، وشرعنة النهب بحجة أن الثقافة عالمية، وليست ملكية خاصة بمجتمعات بعينها. اضطر هؤلاء إلى التخلي عن هذا الدفع، بعد استخدامه ضدهم في معركة المطالبة باسترجاع هذا الإرث المنهوب.
ازدادت في الأعوام الأخيرة وتيرة مطالبة المستعمرات بتضميد جراح الذاكرة، بإعادة قائمة من الذخائر الإنسانية الفريدة إلى موطنها الأصلي، فهي بلا معنى وبدون دلالة، بعيدا عن بيئتها وجذورها الحقيقية. لقيت هذه الدعوات من ذوي العقلية الاستعمارية ردا سخيفا حتى لا نقول شيئا آخر، فهم يعدون الدول المعنية بهذا التراث غير مستعدة بعد لاحتضانه، رغم مضي قرون على وجوده فيها. نعم، إن الأمر أشبه باللص الذي يسرق مالك، ثم يجيب بأنه لن يرجعه، بمبرر أن خزانتك غير كافية لحفظه وصونه.
هذه الردود وغيرها لن تفاجئ كل من يدرك حجم القضية، فلا شك أن القبول بتنفيذها، يعني إفراغ أجنحة وأقسام، وأحيانا إغلاقا كليا، لمتاحف أوروبية عريقة. هل سيحظى متحف "كي برانلي" الباريسي للفنون والحضارات الإفريقية والآسيوية، الذي أنشأه الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، برقم 1,5 مليون زائر سنويا، بعد أن يفقد 70 ألف قطعة تراثية مصدرها إفريقيا؟
تؤكد أميناتو تراوري وزيرة الشؤون الثقافية سابقا في دولة مالي النزيف الذي تعرض له الإرث الثقافي الإفريقي جراء الاستعمار، عادّة 90 في المائة من القطع الأثرية موجودة حاليا خارج حدود القارة السمراء. فمثلا فرنسا التي أطلقت أنشطتها الاستعمارية، منذ عشرينيات القرن الـ16 سيطرت على 35 في المائة من القارة الإفريقية لمدة 300 عام، تمتلك حاليا ما يفوق 90 ألف قطعة أثرية تاريخية، تنتمي إلى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، تم تهريب نصفها خلال الفترة 1885-1960.
لم يكن التفكير في التراث المهدور وليد الشهر الماضي، بعد قرار البرلمان الفرنسي، فبداياته تعود إلى عام 2007 حين بدأت الأمم المتحدة الحوار حول المادة 11 من الإعلان بشأن حقوق الشعوب الأصلية، الذي حث الدول على إعادة "الممتلكات الثقافية والفكرية والدينية والروحية" المأخوذة من الشعوب الأصلية، دون "موافقتها الحرة والمسبقة والمستنيرة، أو انتهاكا لقوانينها وتقاليدها وعاداتها".
كان هذا السند الأساسي لتوالي مطالب الدول باستعادة بعض من ذاكرتها المنهوبة، فطالبت مصر عام 2009 متحف اللوفر بإعادة خمس قطع من لوحة جدارية لأحد نبلاء الأسرة 18، واستعادت نيجريا 32 قطعة نهبها الجيش البريطاني خلال هجومه على قصر أومي الملكي من متحف الفنون الجميلة في مدينة بوسطن الأمريكية، وطالب رئيس دولة بنين وزارة الخارجية الفرنسية بإعادة القطع التي أخذت خلال حقبة الاستعمار.
تعزز هذا السند في آذار (مارس) 2017 باعتماد مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار رقم 2347 المتعلق بحماية التراث الثقافي، وعدّ هذا الاعتراف بمنزلة تجاوب مع الانتفاضة المطالبة بحماية الذاكرة الثقافية البشرية، من الويلات التي تتعرض لها في دول النزاعات. إنه انتصار عالمي غير مسبوق في التاريخ، يؤسس لحق الشعوب في حماية تراثها والاحتفاظ بتاريخها، بذلك بات الدفاع عن التراث الثقافي أمرا حتميا للأمن الدولي.
في سياق التأسيس دائما، تجدر الإشارة إلى المساهمة النوعية للمحكمة الجنائية الدولية بقرارها القاضي بالحكم على قائد البحرية اليوغسلافية ميودراج جوكيتش بالسجن سبعة أعوام بتهم منها التدمير والهجمات غير القانونية على أهداف مدنية، والإضرار المتعمد بمؤسسات تاريخية، خلال حصاره مدينة دوبروفنيك الكرواتية عام 1991، وكان ذلك أول حكم إدانة في التاريخ للتدمير المتعمد للتراث الثقافي، ودفع إلى إدراج المدينة على قائمة التراث العالمي المعرض للاندثار.
أسهمت هذه القرارات، كل حسب سياقه، في العودة مجددا إلى معالجة مسألة في غاية الأهمية، تتعلق بمعالجة ندوب عميقة في ذاكرة الشعوب المستعمرة، فقيم الحوار والتعايش والتسامح التي يراد لها أن تسود، لن تجد سبيلها إلى عقول تعد الآخر يخطط لمحو الذاكرة الثقافة لها. بعيدا عن معادلة الاقتصاد التي يتبناها الغربيون في مقاربتهم للموضوع، يثار التساؤل عن قيمة تراث ثقافي منزوع من تربته الأصلية، ثم أي هوية يراد بناؤها لدى الأجيال الصاعدة في غياب التاريخ، ألم ينتقل جزء من هذا الأخير إلى رفوف وأروقة المتاحف الأوروبية، حيث يثير عقل الزائر برهة ثم ينسى، فيما الأصل أن يبقى بين أيدي أصحابه، ينعش ذاكرتهم جيلا بعد جيل!

الأكثر قراءة