أركان أساسية للمدفوعات في العصر الرقمي «2 من 2»
حول بناء المستقبل الرقمي للمدفوعات يأتي الركن الثاني: مشاركة القطاع العام، لتقديم هوية رقمية يمكن التحقق منها، وبنية تحتية للاتصالات، وأموال من البنك المركزي، وغير ذلك من الضرورات. وتسمح الهوية الرقمية للحرفية صاحبة قصتنا بالاشتراك في خدمات مالية جديدة. وهي أحد شروط الشمول المالي. والشرط الآخر هو إتاحة خدمات الإنترنت، فلن تنجح قصتنا إلا إذا كانت هذه الخدمات متاحة لبطلتها الحرفية. لكن نحو نصف سكان العالم لا تصل إليهم خدمات الإنترنت، بما في ذلك 75 في المائة من إفريقيا جنوب الصحراء، ونحو 70 في المائة من السكان جنوب آسيا. ونجد الصورة معكوسة في أمريكا الشمالية، حيث يحصل 75 في المائة على هذه الخدمات.
ويشجع الصندوق بقوة الاستثمار في البنية التحتية الآن، كجزء من جهود التعافي بعد جائحة كوفيد - 19. وأفضل السبل في هذا الصدد هو إعطاء دفعة متزامنة للاستثمار العام. فإذا تحركت الدول معا، فيمكنها أن تحقق أكثر مما يحققه البلد الواحد بما يتجاوز الثلثين أو أكثر. ويمكنها أيضا جذب استثمارات خاصة بالغة الأهمية. وبالتأكيد، تظل أموال البنك المركزي - في صورتها التقليدية من أوراق نقدية وعملات معدنية واحتياطيات - أمرا ضروريا. فأحد مقاييس الاستقرار الأساسية بالنسبة للحرفية التايلاندية في قصتنا هو قدرتها على تحويل أي الأموال الرقمية التي تتلقاها إلى عملة محلية عند الطلب. كذلك تساعدها عملة البنك المركزي على تلقي المدفوعات في شكل أموال إلكترونية صادرة عن مختلف مقدمي خدمات الدفع. فعلى غرار أي لغة مشتركة تسمح أموال البنك المركزي لجهة تقديم خدمات الدفع بأداء مدفوعات لطرف آخر. وبناء على هذه الركيزة يمكن لكل شركة من شركات التكنولوجيا المالية أن تطرح خدماتها الخاصة وتقوم بتطويرها. وتمنح قابلية التشغيل البيني أجنحة للابتكار والتنوع في طرق الدفع.
فكيف ينبغي لأموال البنك المركزي أن تتطور في العصر الرقمي؟ ومع ظهور جهات جديدة من مقدمي خدمات الدفع، هل ستتاح أموال البنك المركزي لها أيضا؟ وهل سيتم استحداث نسخة رقمية من الأوراق النقدية والعملات المعدنية؟ الواقع: إن كثيرا من الدول بدأ ينظر في إمكانية ذلك بالفعل.
وبينما قد يتغير شكل أموال البنك المركزي، فلا يتوقع أن تتغير وظيفتها. إذ ينتظر أن تظل ركيزة يقوم عليها استقرار أشكال الأموال الأخرى، وتجعل تطورها وتنوعها أمرا ممكنا.
الركن الثالث: الأطر التنظيمية والقانونية، وهو ركن أساسي مهم على القدر نفسه من الأهمية، وهي الأطر التنظيمية والقانونية القوية. فمن المنتظر أن تسمح للابتكار والشركات البادئة بالازدهار مع تحقيق الأهداف الحيوية، أي: ضمان الحماية والخصوصية للمستهلكين، ومكافحة غسل الأموال والجرائم الأخرى، وتوفير الاستقرار والصلابة للجميع.
ويمثل الوضوح التنظيمي مطلبا ضروريا كما ينطوي على تحديات كبيرة في ظل التطور السريع للتكنولوجيا والمنتجات ذات الصلة. ولا تكمن صعوبة بدء نشاط تجاري في كثرة النماذج التي يتعين استيفاؤها. بل إن العقبة الحقيقية هي عدم معرفة عدد النماذج الأخرى التي ستكون مطلوبة. وسيسأل الداخلون الجدد إلى السوق: ما القواعد التي أخضع لها؟ وهل سيعد المنتج الذي أقدمه وديعة أم تأمينا أم نظام دفع أم شيئا آخر؟
وحسب التقليد الذي أرساه لي كوان يو، تواصل حكومة سنغافورة الابتكار، ولديها قانون جديد واعد للمدفوعات. فهي تسعى لتعريف أدوات الدفع الرقمية، واعتماد منهج يقوم على النشاط والمخاطر في تنظيم المدفوعات.
وإذا تم ذلك بالطريقة الصحيحة، فسيحقق تكافؤ الفرص للداخلين الجدد: النشاط نفسه، المخاطر نفسها، القواعد نفسها. غير أن تقييم هذه المخاطر يثير أسئلة جديدة. فعلى سبيل المثال، قدمت الحرفية بطلة قصتنا بيانات المدفوعات بدلا من الضمان. لكن هل القروض القائمة على بيانات وتحليلات أدق تنطوي على مخاطر أقل؟ هل ينبغي أن يكون ما تدفعه أقل؟
وينبغي إتاحة الموارد اللازمة للهيئات التشريعية والتنظيمية حتى تنجح وتظل سباقة. وسيتعين أن تكون هذه الهيئات بعيدة النظر ومتعاونة نظرا للتشعب الكبير الذي تتسم به المدفوعات الجديدة: بنوك مركزية ووزارات مالية تعمل مع هيئات مكافحة الاحتكار، وجماعات الحفاظ على الخصوصية، وهيئات حماية البيانات، وجهات إنفاذ القانون، والمجتمع المدني، والمدافعين عن حقوق المستهلكين، على سبيل المثال لا الحصر. والمرحلة الرابعة والأخيرة: التعاون الدولي ففي الوقت الذي تعبر فيه الأموال الحدود، يجب أيضا أن تعبر معها جهودنا التنظيمية.
الركن الرابع: التعاون الدولي، بما في ذلك تيسير المدفوعات الدولية والتعامل مع التداعيات المترتبة عليها، فهل ستتمكن الحرفية بطلة قصتنا من إرسال الأموال عبر الحدود بالسهولة التي نرسل بها الرسائل النصية نفسها؟ أم سيكون عليها دفع رسوم بمتوسط 7 في المائة، مثلما يفعل اليوم 800 مليون شخص يعتمدون على تحويلات العاملين في الخارج؟
غير أن إرسال الأموال أكثر تعقيدا من إرسال رسالة نصية. فهو يتطلب معايير للتكنولوجيا بين الأموال الرقمية، والمعاملة التنظيمية والقانونية المشتركة، وأنظمة تحديد الهوية الموثوقة عبر الحدود. وقدم أخيرا مجلس الاستقرار المالي، بدعم من الصندوق، خريطة طريق لتعزيز المدفوعات العابرة للحدود. غير أن تنفيذها لا يزال يتطلب كثيرا من العمل.
والتعاون أساسي أيضا لمعالجة التداعيات. فمع زيادة انتشار النقود الرقمية، ستمتد الآثار لتصل إلى مختلف أنحاء العالم. وتتضمن هذه الآثار مبادلة العملات المحلية بعملات أجنبية أكثر جاذبية، وتقلص فعالية السياسة النقدية، والالتفاف على قيود الحساب الرأسمالي. بل إن التداعيات يمكن أن تكون أبعد أثرا. ففي ظل بعض الظروف يمكن أن تؤثر النقود الرقمية الجديدة في النظام النقدي الدولي. وأنشأت دول العالم صندوق النقد الدولي لمساعدتها على إرشاد النظام النقدي العالمي، وجعله قاطرة للنمو من أجل الجميع. وفي الوقت الذي زادت فيه مخاطر التباعد بين الفقراء والأغنياء، ندرك أن المسؤولية لم تكن قط أكبر مما هي عليه اليوم. واليوم، نقف على أهبة الاستعداد للمساعدة في إيجاد نظام نقدي أكثر صلابة، نظام أكثر شمولا للجميع، وأكثر ذكاء وخضرة. إذن فإن الشركات العالمية، ورواد الأعمال البادئة، والحرفية بطلة قصتنا، لديهم أحلام كبيرة. وما نحتاج إليه هو أن نجعل ثورة المدفوعات تعمل لمصلحة الجميع.