عنصرية أوروبا .. مساع نحو رتق كسور الذاكرة
تجدد النقاش حول العنصرية في ربوع أوروبا الغربية، خلال الأسابيع الأخيرة، إذ بلغ مستوى قياسيا، تمثل في الجرأة على الذاكرة الجماعية بالنبش في التاريخ الاستعماري، ما جعل عديدا من الدول الأوروبية أمام انفصام حاد، بين ماضيها الاستعماري وحاضرها الحقوقي. وضعية معقدة تدخل المجتمع المدني قصد إصلاحها، باجتثاث الصفحات السوداء من هذا التاريخ، وإعلان براءة الذمة من هذا الإرث.
رافق موجة الاحتجاج التي شهدها عديد من العواصم الأوروبية، تحت شعار "حياة السود مهمة"، تنديد بما تعانيه هذه الفئة من عنف وتمييز وتضييق في حياتها اليومية، استعراض فصل جديد من فصول تاريخ العبودية، وما رافقه من مآس، وما خلفه من ممارسات عنصرية، لا يزال بعضها متجذرا في وعي أو لا وعي كثير من أبناء الحداثة وما بعدها. وهذا ما أكده جوني بيتس في كتابه "ملاحظات من أوروبا السوداء" حين قال "إن العبودية في شكلها القديم انتهت، إلا أن المجتمعات الأوروبية ما زالت تحمل الفكر الاستعماري على الرغم من أنها تنكر ذلك".
حقيقة طالما حاول كثيرون إنكارها أو تجاهلها، لكن أرقام الواقع تكشفها أو بالأحرى تفضحها، فقد كشف استطلاع "أن تكون أسود اللون في الاتحاد الأوروبي" الصادر عام 2018، الذي تناول معاناة ما يقرب من 3/1 الأوروبيين ذوي الأصول الإفريقية، من المضايقات والعنصرية، وتعنت أجهزة الأمن داخل دول الاتحاد الأوروبي، أن 15 دولة فقط من أصل 28 دولة، لديها خطط عمل واستراتيجيات جدية لمكافحة العنصرية والتمييز العرقي، فيما بقية الدول تتجاهل التعامل مع الثغرات الكبيرة في القوانين الوطنية التي تجرم العنصرية.
أكثر من ذلك، يعمد الاستطلاع إلى تعرية هذه الجرائم غير القابلة للإخفاء حتى بين جدران الاتحاد نفسه، وهذا ما يتضح في مستوى تمثيل السود في أروقة كبرى مؤسسات وهياكل الاتحاد المختلفة، إذ لا يزيدون على 24 مندوبا من 705 مندوبين بيض، ما يعني أن مستوى تمثيلهم أكثر بقليل من 3 في المائة، رغم تجاوز عدد السكان 10 في المائة، من إجمالي السكان في الدول الأوروبية.
صحيح أن السجال حول العنصرية قديم، فأصول الجدل تعود إلى أكثر من خمسة قرون، لكن استعادته هذه المرة، كانت من أجل التذكير بحقيقة المشكلة. فكما أكدت أريك روكي مديرة مركز المحفوظات الثقافية السوداء، وهو مركز متخصص في الحفاظ على تاريخ إفريقيا والكاريبي في المملكة المتحدة، أن "...هذه الأحداث، تعيد تذكيرنا بأن مجتمعنا الأوروبي هو الأب الشرعي لتلك العنصرية والأب الشرعي لتجارة الرقيق".
ظهرت بالموازاة مع هذا النقاش المجتمعي، في بريطانيا على سبيل المثال، مطالب لناشطين تدعو إلى تنقية الذاكرة الجماعية من الشخصيات والرموز الأوروبية ذات الصلة بالعبودية. فانتشرت، وعلى نطاق واسع، قائمة تضم نحو 60 شخصية، لعبت دورا في الحقبة القاتمة من تاريخ الاستعمار البريطاني، فأضحت تماثيلهم محل استهداف، وضمن تلك القائمة نجد: تمثال أوليفر كرومويل في مدينة مانشستر، وتمثال اللورد كتشنر في مدينة تشاتام في مقاطعة كنت، وتوماس جاي صاحب المستشفى الشهير في لندن، الذي جمع ثروة طائلة من امتلاك أسهم في واحدة من أكبر شركات تجارة العبيد، وتمثال إدوارد كولستون تاجر الرقيق، الذي لعب دورا في تهريب 80 ألف رجل وامرأة وطفل إفريقي إلى العبودية.
صارت تلك المطالب في دول أوروبية محل تنفيذ جماهيري، فقد قام المتظاهرون في بلجيكا بتشويه تمثال نصفي، في ساحة في أنتويرب، للملك ليوبولد الثاني الذي أمر باستغلال وقتل ملايين الكونغوليين أواخر القرن الـ19. وفي إيطاليا، قرر مجلس مدينة روما تسمية محطة مترو مستقبلية، باسم "جورجيو مارينكولا" مقاتل سابق في المقاومة الصومالية الإيطالية، عوضا عن اسم آمبا آرادام، في إشارة إلى حملة إيطالية على إثيوبيا عام 1936، اتهمت فيها القوات الفاشية بارتكاب جرائم حرب باستخدام الأسلحة الكيميائية.
وارتفعت الأصوات الأمريكية المعارضة لسياسة البيت الأبيض في صفوف القيادات العسكرية، فيما يتعلق بإعادة تسمية بعض القواعد العسكرية الأمريكية التي تحمل أسماء جنرالات كونفدراليين مؤيدين للعبودية. فقد عارض ترمب بشكل كبير توجه وزارة الدفاع في هذا الإطار، لكن لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ وجهت ضربة كبيرة إلى الرئيس الأمريكي عندما أقرت مشروع قانون يجبر الإدارة على تغيير أسماء هذه القواعد.
تجاوز مدى العنصرية نطاق رجال السياسة والأعمال ليصل إلى عالم الفن، فكثير من الصور "الخالدة"، والمحتفى بها وبأصحابها، يكشف الوجه القبيح للعنصرية، ضد أصحاب البشرة السواء. ففي عام 1786 أنهى الرسام الفرنسي - الكندي فرانسوا بوكور - لوحة سوداء لعبد كان يملكها، فصارت اللوحة بمنزلة دليل دامغ على تاريخ العبودية في كندا، الذي يتم تجاهله أحيانا، وإنكاره تماما في أحيان أخرى. ورسم البريطاني بارثولوميو داندريدج، عام 1725 فتاة صغيرة واقفة في حديقة منزلها، وبمعيتها كلب وعبد أسود، يحمل سلة فيها بعض الخوخ والعنب، ويرتدي كل من الخادم الأسود والكلب في هذه اللوحة طوقا حول رقبته يحمل اسم مالكه.
لا معنى - وفق بعض العقلاء - لتهديم ذاكرة الماضي، فكما صرح صديق خان عمدة لندن، بأن "الحقيقة المؤلمة أن كثيرا من ثروتنا جني من تجارة العبيد، لكن هذا لا يعني الاحتفاء بالأمر في أماكننا العامة"، مشددا على أن معالم لندن يجب أن تعكس تنوعها العرقي والثقافي. فيما عد آخرون الهجوم على التماثيل مجرد رد فعل عاطفي، فهو لن يمحو تاريخ العبودية، أو يعالج وحده قضية العنصرية، بل إن التدمير قد يعني طمس ذلك التاريخ ونسيانه.
على هذا الأساس، يصبح من الأفضل أن يتخلى المتظاهرون عن المطالبة بإزالة التماثيل، ويركزوا بدلا من ذلك على نقلها إلى متاحف، ووضع لافتات جديدة تحتها توضح دور أصحابها في تجارة العبودية، أو في ممارسات البطش والعنف والاضطهاد في الحقبة الاستعمارية. حتى لو تعذر أو رفض مطلب نقلها من مكانها، يبقى التمسك بأهمية وضع هذه اللوحات الجديدة تحتها. بهذا المعنى فإن فكرة وجود التماثيل بهدف تمجيد دورها ستنتفي، ويحل مكانها تنوير الناس بشكل مستمر بتاريخ تلك الفترة المظلمة.