ثقافة الاستعمار وأدب الدماء

ثقافة الاستعمار وأدب الدماء
لا خلاف بين الجلادين سوى في طريقة سفك دماء المدنيين العزل.

مارس بعض الأمم تزويرا للتاريخ، مخفيا وراءه أحداثا ومجازر تاريخية، راح ضحيتها ملايين في حدها الأقصى، وأقل من ذلك عددا، لكنها تتساوى في الوحشية، كما تفاوتت شناعة وبشاعة الجرائم بين الجلادين، لكن ما يشترك فيه مزورو التاريخ، أنهم ذوو أنفة وفوقية على ضحيتهم رغم سفك دمائها، كما أنهم يستحقرون ضحيتهم، ولا مجال للاعتذار عن أفعالهم المشينة. وعلى الرغم من تقديم أنفسهم بطريقة ملائكية في عصرنا الحالي، إلا أن نتاجهم الثقافي كان شاهدا على جرائمهم بعيون الضحايا، لكن من دونوا تاريخهم، تناولوا هذه المجازر على أنها أمجاد وانتصارات.
تبنى الأدب الأوروبي منذ القرن الـ15 الميلادي، تشجيع التوسع الاستعماري، والتعبير عن الذات الاستعمارية "الغربية" المتعالية، وتناوله ويليام شكسبير في مسرحية "العاصفة"، من خلال إبداء الرضا والرغبة في مزيد من السطو على الشعوب الأخرى "الأقل قيمة"، وهذا ما فعله تماما الأدب الأوروبي في تأييد الغزو الصليبي لبيت المقدس، واحتلال القدس وتنفيذ المجازر بحق أهلها، الذي لا يختلف عن الغزو البحري البرتغالي لشواطئ جدة.
التاريخ يكتبه المنتصر دائما، لكن العار يلاحق الجلاد الملطخة يداه بالدماء حتى آخر الزمان، فعلى الرغم من مسلسلات الإنكار، صور التاريخ التركي مجزرة الأرمن بأنها نفذت باسم الدين والوطن، بعد أن أصدر طلعت باشا الذي كان يشغل منصب الصدارة "رئاسة الوزراء" ووزارة الداخلية الأوامر بقتل الأرمن، وهذه "إبادة جماعية" بكل معنى الكلمة راح ضحيتها 300 ألف إلى 500 ألف شخص، كانوا قد سكنوا الهضبة الأرمنية.
المذبحة التي نفذت باسم الإسلام، مع الأسف الإسلام منها براء، إذ إن نبي الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - منح طوائف النصارى والقبط والسريان اليعقوبية في مصر وأقاليمها، وفي كل مكان من أقطار الأرض الأمان، وقال، "هذا عهد مني إلى سكان جميع النواحي من السريان والقبط، حفظا لميثاقهم ورعاية لأجل الله عز وجل، لأنهم وديعة الله في أرضه، ومحافظون لما نزل عليهم في الإنجيل والزبور والتوراة"، كما أن سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان مقدما الأمان لسكان أرمينيا والأرمن. ويتجه المؤشر لسبب المجزرة نحو القومية التركية للعثمانيين، وهي ذاتها سبب معاناة العرب إبان حكم الدولة العثمانية، إذ لم يمنع الدين الواحد العثمانيين والحركة الطورانية من سياسات التتريك، واستحقار العرب، وطمس اللغة العربية، ومعاملة العرب على أنهم خدم لهم.
يسوق اليوم للتوسع التركي العسكري في الدول العربية على أنه فتح إسلامي جديد، وتقال فيه القصائد المديح والتمجيد، لكن ما أشبه اليوم بالأمس، فحصار الدرعية كانت له أوجه عدة ومبررات كثيرة للمتسائلين في إسطنبول عن داعي الهجوم وحصار منطقة عربية إسلامية؟ والإجابة بلا شك كانت بحجة حماية المقدسات ونصرة الدين، لكن هل المستعمر يأتي ليحمي الدين من أهله؟ هذه الدعاية لا تختلف كثيرا عن الدعاية اليابانية لاحتلال الصين، فالجيش الإمبراطوري الياباني صوره الأدب الياباني بأنه قادم ليحمي الشعب الصيني من نفسه، ومعتقداته، ومن قيادته، التي لا تكترث لأمره، كما تم تصوير الحكومة الصينية بالمجرمة بعد حادثة كومودين المفتعلة، لتكون ذريعة للحرب، التي نفذت خلالها مجزرة أو مذبحة عاصمة الجنوب نانجينج، التي راح ضحيتها نحو 200 ألف ضحية، فيما تكفل مؤرخو العرش الإمبراطوري بتقديم المذبحة على أنها نصر عسكري، جاء كفعل احترازي لحماية الشعب الياباني من المخربين الصينيين، ولحماية الصينيين من شر أنفسهم.
لا خلاف بين الجلادين سوى في طريقة سفك دماء المدنيين العزل، في باريس عرضت جماجم المقاومين الجزائريين على أنها فن، مقدمة إياها لمتذوقي الثقافة والجمال كنوع من أنواع التحضر المنفرد، متجاوزة بذلك كل أعراف الرحمة الإنسانية، متجاهلة حجم الوجع والألم، الذي يقع في نفوس الجزائريين، الذين كتبوا نشيدهم الوطني بالدماء على جدران السجون، إذ اعترف الجنرال ماسو، أحد كبار جنرالات الحرب في فرنسا سابقا، بأن التعذيب في الجزائر "كان أمرا مشاعا، كان يمارس على نطاق واسع"، هذا الأمر أكده الجنرال بول أوساريس من خلال اعترافاته في كتاب "أجهزة خاصة"، وكما شوهت تاريخ الجزائريين طوال 132 عاما، بنت فرنسا إمبراطوريتها النووية على بحيرة من جثث الجزائريين، حيث أجرت السلطات الاستعمارية الفرنسية 17 تفجيرا نوويا في عمق الصحراء في الجزائر، راح ضحيتها 42 ألف شخص، وتعرض مئات الآلاف للإشعاعات، كما نهجت نهج جميع المستعمرين وحاولت القضاء على الثقافة العربية الأصيلة هناك.
أحفاد الفرس في طهران ليسوا ببعيدين عن طمس ثقافة الشعوب الأخرى، ففي مكتبة طهران نصبت بلورية زجاجية فيها عبارة مفادها "سنعيد العرب إلى الصحراء"، معروضة حتى يومنا هذا، بالتزامن مع استباحة كاملة لأراضي الأحواز العربية، التي أبت إلا أن تبقى عربية، رغم سياسات التفريس المفروضة عليها، وحظر تعليم اللغة العربية في مدارسها، إضافة إلى ممارسات قمعية تستهدف في المقام الأول القضاء على الأقلية العربية هناك.

الأكثر قراءة