مدينة الطب
لا بد لكل طبيب أن يتذكر هذا الاسم (بادوفا) مدينة الطب الواقعة في شمال إيطاليا، التي لولا علماؤها وجامعتها لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من تقدم علمي في مجال الطب والمعرفة بجسم الإنسان. منها انطلقت شرارة العلم والبحث ومن هناك تعرفنا على أجسادنا بعد أن كان محرما على الأطباء أو الحكماء في ذلك الزمان المساس بالجثث البشرية وكلما أرادوا التعرف أكثر لم يجدوا أمامهم سوى القرود.
لقد كان الأطباء من القرن الثاني الميلادي حتى نهاية العصور الوسطى، يعتقدون أن وظائف أعضاء جسم القرود تشبه وظائف أعضاء جسم الإنسان. وهذا الاعتقاد الشائع كان مثار الخلاف بين أطباء التشريح وبين الطبيب الإغريقي كلوديوس جالينوس، الذي كان مرجعا لعلماء غرب أوروبا والدولة البيزنطية في كل ما له علاقة بالطب.
لقد فتحت تجارب جالينوس الباب أمام أطباء العالم لتطوير الطب على مدار 14 قرنا رغم كل المحاذير والمحرمات التي كانت تعترض طريقه، وكان لمدينة بادوفا وجامعتها الفضل في تمهيد الطريق أمام ممارسي الطب حتى يومنا هذا، وظلت مدينة بادوفا، التي كانت يوما ما منطقة حكم ذاتي، مركزا لدراسة الطب وفروعه لقرون عدة. ورسخت هذا التاريخ بإنشاء جامعة بادوفا في عام 1222. وكانت الجامعة نموذجا فريدا للتسامح الديني والبراعة منقطعة النظير في علم التشريح.
حتى بعد استيلاء جمهورية البندقية على بادوفا في عام 1405، حافظ البندقيون على الجامعة لتصبح مركزا تعليميا للجمهورية، وأرادوا بذلك كسب الشهرة والتفات الناس للجمهورية وإنجازاتها ولم يكتفوا بذلك، بل عملوا على استقطاب أفضل الأطباء من جميع أنحاء أوروبا الذين أغرتهم حرية التدريس والبحث العلمي بها، فكانت بذلك مصباحا يضيء الطريق أمام الباحثين عن المعرفة.
لتصبح جامعة بادوفا مركز النهضة العلمية في عصر النهضة، وفيها ولد وشاع المنهج التجريبي والفحص العلمي بدلا من الاعتماد الكلي على الكتب والمعارف النظرية.
في جامعة بادوفا، كان جاليليو يدرس الرياضيات، ومنها نشر منهجه الكمي التجريبي الذي كان له بالغ الأثر في الطب. وكان ويليام هارفي، أول من وصف الجهاز الدوري بالكامل في جسم الإنسان، طالبا في كلية الطب في جامعة بادوفا. واخترع سانتوريو، أحد أساتذة الجامعة، الترمومتر. وأسس جيوفاني باتيستا مورجاني، أحد أساتذة التشريح في الجامعة، علم الأمراض التشريحي في القرن الـ18. وأجريت أول عملية زراعة قلب بشري في إيطاليا في مدينة بادوفا في عام 1985. وعلى أرضها في (بلازو ديل بو) أنشئ أول مسرح دائم للتشريح وليس للتمثيل في القرن الـ16.