كورونا .. عودة ودعوة إلى الأسئلة الكبرى
كان النقاش عن جائحة كورونا وحولها، في كتاب "الجوائح في الأزمنة المعاصرة رؤى دينية وفلسفية"، الصادر حديثا "2020" عن مركز أفكار للدراسات والأبحاث، في تسع أوراق بحثية متباينة، من حيث الحجم والمقاربة والمرجعية. فجاءت الأوراق منجمة بين ثلاثة مجالات كبرى، "الإنسان والمجال والعمران"، ثم "الدين والأخلاق والقيم"، وأخيرا "مستقبل الإنسان والأنا والهوية" في زمن كورونا.
حرص المشاركون في الكتاب بمشاربهم العلمية والفكرية، على دراسة هذه الحالة غير المسبوقة في التاريخ المعاصر، التي يعيشها العالم قاطبة، بطرح الأسئلة أكثر من تقديم الأجوبة، فهذا الوحش المجهري الذي لا نراه ولا نسمعه، وربما لا نشعر به، فرض على كوكب الأرض عدالة استثنائية، وطرح أسئلة تسائل الإنسانية في الخيارات التي اجترحتها، وفي الطرائق التي ابتدعتها، وفي العادات التي دأبت عليها، وفي العمران الذي شيدته.
يتفق الباحثون، باختلاف تخصصاتهم المعرفية، على أن هذا الفيروس، مثل لحظة فارقة في مسار البشرية، فالعالم قبل هذا الوباء قطعا لن يكون ذاته بعده، فخلال أسابيع فقط، نجح كورونا في قلب إيقاع الحياة اليومية، رأسا على عقب، في مختلف أصقاع العالم. أكثر من ذلك، ارتدت الإنسانية على عقبيها، فاختفت ظواهر وتوقفت أنشطة وعلقت عادات، مقابل استعادة عادات أخرى قديمة، وأحيانا تأسيس أخرى حديثة، قصد مجاراة إيقاع الفيروس، بمحاولة العيش في الحدود الدنيا.
يعد محرز الدريسي الأكاديمي التونسي كورونا ليس مجرد فيروس، إنما "مفهوم" يتشكل ويشكل، ينتج لحظات تفكير، تأمل، ففي لحظة اشتداد الأزمات تثار الأسئلة الكبرى مثل، "ما معنى أن أعيش، ما معنى أن أحيا، ما قيمي، ما معنى أني إنسان، تتجاوز معنى العقل إلى سؤال الإنسانية، وما معنى البشرية، وما معنى الخصوصية والكونية، أمام آلاف الأموات التي حصدها الفيروس، نطرح سؤالا، هل نعيش فعلا الآن في عصر مستنير؟ ألم يفضح كورونا هشاشة الإنسانية ولزوجة الحداثة ووهم ما بعد الحداثة؟ مفاهيم المتعة التحليلية تتقلص لتبحث عن مفاهيم الجدوى الحمائية، ونحن لا نواجه الموت الفردي، وهو حق، بل نواجه الموت الحشودي والفناء الجماهيري، لحظة نوح دون سفينة".
يتوقع أن تشكل العناية بهذه الأسئلة - كما أجمع على ذلك المشاركون في الكتاب - منعطفا لتدارك الخلال ومعالجة الأعطاب التي تعيشها الإنسانية منذ عقود، بعد انحرافها عن المسار الطبيعي. نظير ذلك، قد يقود الاستغراق في النزعة التشاؤمية والإفراط في الخوف إلى تفويت فرصة تاريخية عليها، لاستخلاص الدروس والعبر، وقبل ذلك لاستغلال الإمكانات والفرص التي تظهر بين الفينة والأخرى في معركة الحرب مع كورونا.
تمثل الأوبئة فرصة فردية وفرصة مجتمعية وفرصة تاريخية وفرصة للإنسانية، فالمتغيرات التي رافقت هذه الجائحة منحت الإنسان أفرادا وجماعات، فرصة لإمعان النظر في ذاته، وفيمن حوله، وأيضا ما حوله، فلحظة الجائحة استثنائية بكل المقاييس، جعلت الحقيقة ساطعة أمام الجميع دولا وأفرادا، وكشفت بما لا يدع مجالا للشك، مدى زيف ووهن الحياة المعاصرة، على الأصعدة والمستويات كافة.
لدى كورونا مقدرة على الكشف، وربما الفضح والتعرية، فالظاهر أنه لا شيء في العالم سلم منه، من مكونات وتركيبة النظام العالمي المعولم حتى أبسط تفاصيل العيش اليومي للإنسان. نعم، حتى التفكير والتأمل اللذين تفرضهما علينا الجائحة، ونزعم أن الإنسانية مدعوة إليهما اليوم قبل أي وقت مضى، أضحيا بدورهما محل تساؤل واستفهام في علاقتهما بالسكن، حيث يتساءل الباحث الحسن أسويق "الحجر فرصة للتفكير والتأمل في الذات، وهذا لا شك يحتاج إلى الهدوء والسكينة. فهل يوفر السكن المعاصر ذلك؟"
كشف البحث في مناحي الحياة المعاصرة على مستوى الماكرو عن أعطاب بالجملة، تجعل حياة الإنسان أبعد ما تكون عن توفير الشروط الدنيا للعيش الكريم "السكن، النقل، التغذية، الصحة، التعليم، الأمن...". وكان الباحث المغربي توفيق فائزي بليغا حين نعت هذه الحالة بوصف "التدبير الحربي" المفتقد لروح الإنسانية، بقوله، "إن التدبير المدني الحديث تدبير حربي ضد كل أشكال الحياة الأخرى، ومنها أشكال الحياة الإنسانية. وتزامن تحسين النسل في الداخل، وفق معايير مع الإبادة".
في غمرة هجوم الفيروس، نبه بول هيك الأكاديمي الأمريكي إلى العجز الذي انتاب أكبر المؤسسات، حيث تحدث عن "إغلاق كل مراكز القوة في واشنطن، البيت الأبيض، الكونجرس، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي... أبوابها، ليحيط بها السكون، بل العجز نتيجة للوباء الذي سببه شيء أصغر من الجرثومة، لا يستطيع القراءة ولا الكتابة ولا النطق بكلمة واحدة، إلا أنه قد شل القوى الدنيوية كلها".
أعاد الوباء بعضا من الاعتبار إلى الثقافة الأصيلة والقيم، في إحكام مواجهة الوباء وسرعة الاستجابة لمقتضيات هذه المواجهة، وهذان الأمران يتلخصان - بحسب ورقة مصدق الجليدي - في قيمة الانضباط، فأنجح الأمم في مواجهة الفيروس كانت تلك المتشبعة بهذه القيمة. ألم يؤكد إيمانويل كانط الفيلسوف الألماني في تأملاته التربوية قيمة الانضباط، لدرجة "منحه أهمية تفوق أهمية اكتساب المعرفة ذاتها، لأنه - حسب قوله - من فاته نصيب من المعرفة، فإنه بإمكانه تداركه في أي وقت، لكن من فاته اكتساب خلق الانضباط، يصعب عليه لاحقا استبطانه حقا".
وزعزع اليقين والثقة بقدرة العلم على حل المشكلات، ودرء ما قد يتهدد الإنسان من مخاطر، وبدد من طغيان النزعة العلموية – نسبة إلى العلم - الواثقة، فعالم الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي وقف مذهولا ذليلا أمام زحف الفيروس الفتاك، ما ولد مشاعر الخوف والفزع في المجتمعات الحديثة، بعدما حسب الإنسان الحديث أنه أودع هذا الشعور رفوف التاريخ، بفضل ما حصن به نفسه من معرفة وعلم، ليجد نفسه اليوم مسكونا بالرعب من مجهول يدهمه من جديد.
كشف كورونا مساوئ السياسات العمومية في الدولة الحديثة، فالإسكان وتهيئة المجال على سبيل المثال إحداها، إذ بينت الجائحة الفرق بين السكن والمأوى، من خلال استدعاء الشروط اللازم توافرها في المباني، لتكون فعلا مساكن لا أن تكون مجرد مأوى يبقيك على قيد الحياة، فالفرق شاسع بين الساكن والقاطن، "فرق بين أن يكون لك محل يحميك، وبين أن يكون لك مكان في العالم"، وفتح في المقابل أفق التفكير في توفير شروط سكن ملائم، من خلال "استراتيجية معمارية جديدة للمجال، قائمة على الدمج بين البادية والمدينة، ضمن نسيج حضري متكامل".
نجح كورونا في فرض وجوب احترام الحياة البشرية كمبدأ أساسي في السياسات العمومية، ما يعني في نظر الباحث عبدالحق الزموري "إعادة التفكير في المعنى الذي أصبغته الأنظمة المعيارية النيوليبرالية للعولمة، وكذا للمبنى الذي انتظمت داخله نشاطات الأفراد والدول، فالفيروس يفكر خارج الثنائيات الفكرية البشرية". فقد أسقطت الجائحة، بشكل واسع وسريع، كل الوساطات بين الإنسان ومعناه، وعاد سؤال المعنى يؤرق البشرية من جديد.