رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


بكين تنفس عن مشكلاتها بافتعال أزمة مع نيودلهي

اعتادت الأنظمة الشمولية التي لا تكترث عادة بحياة ومستقبل مواطنيها قدر اهتمامها ببقائها في السلطة مهما كان الثمن، على التملص من إخفاقاتها الداخلية عبر افتعال الأزمات الخارجية لصرف أنظار شعبها، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
ولعل أفضل الأمثلة الطازجة على صحة ما نقول، هو الأزمة التي افتعلها النظام الشيوعي القائم في بكين مع الهند في 15 حزيران (يونيو) الجاري. في هذا اليوم حاول الجيش الأحمر الصيني تغيير الوضع القائم عند خط السيطرة الفعلية الحدودي الفاصل بين الدولتين النوويتين في وادي جالاوان في منطقة لاداخ الجبلية بالاشتباك مع الجيش الهندي (أسفر الاشتباك عن مقتل عدد من الجنود من الجانبين في أول تطور دموي منذ عقود). هذا الخط الحدودي حافظت نيودلهي على استقراره وهدوئه عبر الأعوام الطويلة الماضية، رغم أنها هي التي يفترض بها أن تسعى إلى تغييره كونها المتضررة الأولى منه.
ففي تشرين الأول (أكتوبر) عام 1962 فاجأت الصين، زمن زعيمها الراديكالي ماو تسي تونج (توفي 1976) العالم بالغدر بجارتها الهندية وشريكتها في إطلاق مبادئ مؤتمر باندونج (1955) للسلام والتعاون بين الدول الأفروآسيوية، وذلك بشن حرب حدودية قصيرة خاطفة احتلت بنتيجتها أكثر من 3000 كيلومتر مربع من الأراضي الهندية. وقتها كانت بكين تعاني العزلة والضغوط الاقتصادية وتمرد سكان إقليم التبت بقيادة الدلاي لاما، كما كانت قلقة من حدوث خلخلة في أوضاعها الداخلية، خصوصا أن الولايات المتحدة كانت آنذاك تتوعدها وتعمل ضدها من خلال دعم ومساندة حكومة الصين الوطنية في تايبيه كممثلة شرعية لعموم الشعب الصيني. ومن جانب آخر كانت الخلافات الأيديولوجية بين النظامين الشيوعيين الحليفين في بكين وموسكو حول مفاهيم وتطبيقات الماركسية والاشتراكية قد بدأت تطل برأسها. ففي عام 1960 مثلا وصف الزعيم السوفياتي نيكيتا خرتشوف (توفي 1971) نظيره الصيني ماو تسي تونج بـ "الحذاء المهترئ القديم" ليرد عليه الأخير قائلا "إنك مجرد شخص عفن مخمور ثرثار".
وهكذا أقدمت الصين على شن الحرب ضد جارتها المسالمة، مستغلة انشغال العالم وقتذاك بأزمة خليج الخنازير الكوبية، كوسيلة للهروب من الضغوط الداخلية والخارجية، ولا سيما أن الهند تلك الأيام لم تكن في قوتها العسكرية الحالية، كما أن زعيمها آنذاك جواهر لال نهرو (توفي 1964) كان يراهن بشدة على المبادئ الأخلاقية في السياسة والعلاقات الدولية، وهو ما اكتشف أنه مجرد وهم ونظرية غير واقعية، قبل أن يموت كمدا بعد عامين تقريبا.
المشهد الستيني السابق يتكرر اليوم، لكن مع تبدل الوجوه القيادية في الهند والصين وتعاظم قوتي الدولتين العسكرية والاقتصادية وتغير شكل النظام العالمي. فالصين كما بات معروفا صارت صاحبة أجندة توسعية، أو لنقل أحلاما للهيمنة وبناء إمبراطورية كبرى. وهذا ليس كلاما مرسلا يعوزه الدليل وإنما حقيقة يمكن للمراقب أن يستشفها من بيانات مؤتمرات الحزب الشيوعي الحاكم السنوية، ومن مشروع طريق الحرير ومئات البلايين من الدولارات المخصصة له، ومن طريقة قيادة الرئيس شي جين بينج وخطبه وشعاراته التي تذكر المرء بما كان يصدر من المعلم ماوتسي تونج، لكن بنسخة مطورة متماشية مع مستجدات العصر.
والصين، لئن تخطت اليابان بنجاح مشهود لجهة الموقع الاقتصادي، فصارت ثاني اقتصادات العالم بعد الولايات المتحدة، ونجحت في أن تبني لنفسها نفوذا سياسيا واستراتيجيا في عديد من دول العالم، بغض النظر عن الأداة والأسلوب، إلا أنها تواجه ضغوطا وتحديات عديدة مثل انتفاضة الهونجكونجيين ضدها، ومقاومة بعض دول جنوب شرق آسيا لخططها التوسعية في بحر الصيني الجنوبي، وصراعها التجاري مع الولايات المتحدة، ووجود احتقان مسكوت عنه في إقليمها الغربي المسلم المعروف بتركستان الشرقية، دعك من توجسها من العلاقات الاقتصادية القوية بين الهند واليابان، والتعاون العسكري الهندي - الأسترالي المتعاظم، والتفاهمات الاستراتيجية بين واشنطن ونيودلهي، وعودة الهند واليابان للتعاون العلني مع تايوان اقتصاديا وتجاريا.
أما حين جاءت جائحة كورونا التي انطلقت منها وتسببت في كوارث صحية ونفسية واقتصادية مؤلمة للبشرية جمعاء، فقد عقدت الأوضاع الصينية داخليا وخارجيا. فالخسائر "البليونية" التي نجمت عن الجائحة وأعداد الموتى والمصابين الضخمة، ألحقت أضرارا لا يمكن تعويضها بسمعة الصين كبلد وقيادة وثقافة، بل تطور الأمر إلى ظهور توجه عالمي متعاظم تقوده إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وحلفائه الغربيين لمحاصرة الصين ومعاقبتها وإجبارها على دفع تعويضات خيالية عن كل ما تسببت فيه، بقصد أو بدون قصد، من خسائر لعشرات الدول ومئات الملايين من البشر.
إحدى الصحف الآسيوية نشرت خبر الاشتباك الحدودي تحت مانشيت عريض يقول، "الصين تطلق النار على قدميها" في إشارة إلى الخسائر المحتملة التي يمكن أن تتكبدها بكين من عدوانها على جارتها الهندية. والخسائر المقصودة هنا ليست في صورة حملة تنديد عالمية تظهر الصين أمام العالم كقوة عدوانية لا يمكن الوثوق بها، وإنما ما قد تلجأ إليه نيودلهي في إطار الرد غير العسكري، مثل تجميد بعض الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة سابقا، من تلك التي ستكبد القطاعين الصناعي والتجاري الصيني خسائر فادحة.
قد لا تنجح الهند تماما في منع كتلتها البشرية الضخمة من شراء المنتجات الاستهلاكية الصينية ذات الأسعار المناسبة لمداخيل أغلب مواطنيها، لكن حكومة رئيس الوزراء نيراندرا مودي تستطيع في الوقت نفسه تكبيد المصنعين والموردين والمستثمرين الصينيين خسائر معتبرة بطرق أخرى، استجابة لضغوط قوية تمارسها بعض القوى المحلية الغاضبة من إقدام الصينيين على قتل ما لا يقل عن 20 عنصرا من الجيش الهندي.
فمثلا يمكن للحكومة المركزية بالاتفاق مع الحكومات المحلية، أن توقف استخدام كل الشركات الهندية العامة وشبه العامة للمنتج الصيني، وأن تلزم جهات كثيرة من تلك التي تتعامل معها في تنفيذ المشاريع ألا تستخدم أي منتج صيني في أعمالها، وتصدر تشريعات تحول دون حصول المستثمرين الصينيين على أسهم شركات هندية عاملة في قطاعات مربحة محددة دون موافقة الدولة، وتأمر قطاعات اقتصادية حيوية بإعادة تنظيم أنشطتها، حيث تستبعد أي صفقات مع نظيراتها الصينية وأي استخدام لمنتجات الأخيرة، ولا سيما قطاع الاتصالات المهم الذي تجني الصين أرباحا هائلة من ورائه، بسبب اعتماد مئات الملايين من الهنود على الهواتف والأنظمة والوسائط المصنوعة في الصين. وينطبق الشيء ذاته على قطاع صناعة الأدوية الضخم الذي يمكنه الاستغناء عن كثير من المواد الصيدلانية المستوردة من الصين لمصلحة مواد محلية أكثر جودة وإن كانت أغلى ثمنا. وفي سياق الإجراءات الهندية الانتقامية تردد أن اتحاد غرف التجار والصناعة الهندي، وهو كيان له نفوذ واسع، سارع إلى تقديم قائمة بأكثر من 450 سلعة للحكومة، طالبا منها الأمر بإيقاف استيرادها من الصين.
والحال، إن حالة القلق التي تسيطر على القيادة الصينية ومنظري حزبها الشيوعي، والدعاوى التي ستطولها لكذبها وعدم تعاونها لجهة الكشف عن كل الحقائق المتعلقة بجائحة كورونا، هي التي أملت عليها افتعال أزمة مع الهند من أجل التنفيس، أو لتشتيت أنظار الداخل، أو بهدف الظهور أمام الخارج بمظهر القوة العالمية التي يجب أن يحسب لها ألف حساب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي