مناعة المدن .. إعادة تصميم الحواضر لمواجهة الجوائح
فرضت تداعيات جائحة كورونا التفكير في المسألة الصحية خارج دائرة الأطر التقليدية، من مهن طبية ومستشفيات ومختبرات وصيدلة، بعدما كشفت يوميات الحجر الصحي عن دور أساسي لهندسة المدن، كمساهم في جهود الطب الوقائي. صحيح، أن إعداد المدن لمواجهة الأزمات كان حاضرا باستمرار في التخطيط الحضري، فتم تشييد الملاجئ لمواجهة الحروب، وأقيمت منشآت تصريف المياه للوقاية من الفيضانات.. لكن نادرا ما تحضر الأزمات الصحية في استراتيجية التخطيط وتصاميم التمدين.
أظهرت الوقائع أخيرا أن المدن الحديثة ليست مصممة للتكيف مع الجوائح، فعصور الأوبئة، في نظر المخططين الحضريين، أضحت جزءا من أحداث التاريخ، بفضل التطورات العلمية والطبية وحتى التقنية. قبل أن يكتشف الجميع أن الحقيقة غير ذلك، فقد شهد القرن الـ21 حتى الآن ستة أوبئة، كان أولها متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد والوخيم، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، وفيروس إيبولا مرتين "2013 و2018"، وإنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير، وأخيرا وباء كورونا المستجد.
كان وقع هذا الأخير مختلفا على البشرية، قياسا على باقي الأوبئة المحدودة، من حيث الزمان وكذا النطاق. فبدت أحدث المدن العصرية، بما في ذلك المدن الذكية شبه عاجزة عن التعاطي مع متطلبات أزمة ذات طبيعة صحية، ما فتح النقاش حول قواعد الهندسة والتخطيط وقوانين البناء والتعمير، رغم بعض التحفظ على هذا السجال، بذريعة أن الأوبئة استثناء وليست أصلا. دفع مقبول ظاهريا، لكن أوبئة كهذه، رغم طابعها الاستثنائي، فخسائرها وأضرارها تبقى غير قابلة للتقويم.
شكل إغلاق المدن والمراكز الحضرية عالميا، تجربة فريدة ومزعجة لسكان المدن، فقد رأى كثيرون مدنهم، لأول مرة في حياتهم، بعيون مختلفة، فقد كشفت هذه الجائحة عن هشاشة المساكن أو بالأحرى أماكن إيواء البشر، فأغلبيتها لا تؤدي دور الملتقى العائلي المفعل بالمعنى والقيمة والدفء، بل هي مجرد مخازن بشرية طاردة. لتتوالى الأسئلة بشأن أسلوب حياة الإنسان الحديث، وحدود الرفاهية في ظل حياة المدنية، وتبعات هذه الحياة اقتصاديا واجتماعيا وصحيا.. بالموازاة مع ذلك حتم الأمر على المخططين الحضريين مراجعة قناعاتهم وأفكارهم عن شكل المدينة الجيد، والتفكير في ابتكار بدائل حضرية، بمقدورها مقاومة أو احتواء الأوبئة.
تاريخيا، يجهل كثيرون أن البدايات الأولى للتخطيط الحضري في علم العمران، ارتبطت بوباء الكوليرا الذي ضرب مدينة لندن أواسط القرن الـ19. بذلك يكون النقاش حول "المناعة الصحية للمدن" مجرد محاولة لإعادة وضع التخطيط الحضري على السكة، قصد تحقيق الهدف الذي أنشئ لأجله، فالكثافة السكانية كانت على الدوام أحد العوامل المساهمة في انتشار الأمراض المعدية، حيث كانت بؤرة انتشار وباء متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد في مجمع سكني في مدينة هونج كونج إحدى أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم، وتعد مدينة ووهان مكان ظهور فيروس كورونا، أكثر المدن كثافة سكانية في وسط الصين، وتعد مدينة نيويورك الأكثر تضررا من الفيروس، أشد المدن اكتظاظا بالسكان في الولايات المتحدة.
تفيد توقعات الديموغرافيين أن 68 في المائة من سكان العالم، سيعيشون في المدن بحلول منتصف القرن الحالي، ما يجعل إعادة تصميم المدن لتصبح قادرة على الصمود في وجه الأوبئة أولوية ملحة في المستقبل، حتى لا يتكرر سيناريو جائحة كورونا من جديد، حين تحولت مدن كبرى إلى فضاءات مهجورة، وظهرت البشاعة في كل شيء، إذ وصلت حد الحديث عن "جرائم" تصميم البيوت والعمارات، التي نبه فيروس كورونا إلى الحاجة الماسة لأنسنتها، وتحويل فضاءاتها إلى أماكن صديقة للإنسان.
أبان كورونا أن المساكن "البيوت" في المدينة صممت في الأصل لتكون محلا للنوم فقط، فإيقاع الحياة المعاصرة يفرض تمضية معظم الوقت في الخارج، ما جعل البقاء فيها تنفيذا لإجراءات الطوارئ الصحية أشبه بدخول السجن في نظر أصحابها، كما كشف الفيروس عن الحاجة الماسة إلى فكرة الأحياء، بمعناها وحمولتها التقليدية، التي قضى عليها التوجه نحو التركز في المدن الكبرى، ففكرة تجميع كل مرافق المدينة في أماكن بعينها، لغايات في نفوس الرأسماليين، لها من الأضرار ما يفوق المنافع، فنظام الأحياء في المدن يتيح تلبية الحاجات الضرورية، دون الحاجة إلى عمليات التنقل عبر وسائل النقل العمومي، ما يخفض من نسبة انتشار العدوى في المدينة.
حاولت مدينة ملبورن الأسترالية إعادة تجربة الأحياء، تحت شعار "مدينة العشرين دقيقة" في محاولة تجريبية، يقوم هذا النموذج على ضمان وجود كل ما يحتاج إليه المواطن، من تسوق وتطبيب وتعليم وملاعب وأماكن للتنزه، على بعد 20 دقيقة فقط من مسكنه، هكذا سيساعد توطين الخدمات بالقرب من المواطن، على الحد من استخدام المواصلات العامة، ما يعني التخفيف من التلوث والاكتظاظ والحوادث.
يبدو النقاش الذي أعاده وباء كورونا حول التخطيط الحضري مميزا، خاصة أنه يثير قضايا عاشها الأفراد إبان فترة الحجر الصحي، لكن المثير حقا أن هنري لوفيفر العقل الفرنسي الفذ، انتبه إلى هذه الأمور قبل 40 عاما، وحذر في كتاب بعنوان "الحق في المدينة" (1968)، من تحول المدن إلى مساحة من الاستهلاك المطلق، تخضع لروتين قاتل، يتشاركه كل أفراد المجتمع، بغض النظر عن طبقته الاجتماعية أو مهنته.