ليس مجرد لون

رافقت الألوان، البشر منذ أن وجدوا على الأرض وأحاطت بهم من كل جانب، فاستهواهم جمالها، وراقهم لمعانها. زرقة الماء وخضرة الأشجار وصفار الشمس ولون الشفق، لذلك حاولوا محاكاتها ونقلها إلى منازلهم وملابسهم ومقتنياتهم الشخصية المختلفة، باختراع الألوان قبل 40 ألف عام باستخدام التراب ودهون الحيوانات والفحم المحترق والمعادن!
ومن أشهر تلك الألوان، اللون الأزرق الذي ارتبط بالملوك والفن والجيش والطبيعة، وهو أحد أقدم الأصباغ الاصطناعية التي اخترعها البشر. صنعه الفراعنة نحو عام 2200 قبل الميلاد من معدن "سيليكات نحاس الكالسيوم"، وذلك بخلط أحد المعادن التي تحتوي على النحاس، مثل الأزوريت والمالاكيت مع الرمال ومسحوق الحجر الجيري ونسبة قليلة من ملح النطرون، وتعريضه إلى درجات حرارة عالية جدا، لتتكون حبيبات بلورية ذات لون أزرق زاه وذي ثباتية عالية، عرف بالأزرق المصري وتم اكتشافه في لوحة مقبرة تعود إلى آخر ملوك الأسرة الأولى.
استخدمه المصريون القدماء في تلوين وزخرفة المقابر والمعابد والمجوهرات، وأشهرها تاج تمثال الملكة نفرتيتي. وشاع استخدام الصبغة المصرية في العالم وفي مختلف العصور ووصل إلى الهند وبلاد السند!
ثبت حديثا أنه ليس مجرد لون بل مادة تحمل صفة فريدة من نوعها ستحدث ثورة في عالم الطب والتشخيص والطاقة والاتصالات، فتلك البلورات مكونة من شرائح نانوية أرق 100 ألف مرة من شعرة الإنسان!
فقد وجد الباحثون أن اللون الأزرق المصري عندما يتعرض إلى الضوء المرئي تصدر عنه أشعة تحت حمراء قريبة، ما يجعلها مثالية للتصوير البصري، والفحص المجهري اللذين يعدان أداتين مهمتين في البحث والطب الحيوي، كما يقلل اللون القديم استهلاك طاقة البناء ويزيد إنتاج الطاقة الشمسية.
بوساطة تلك الأشعة المنبعثة من شرائحه النانوية التي تخترق الأجسام بشكل أكبر من غيرها، تمكن العلماء من دراسة الحركة الميكانيكية في أنسجة النباتات والحيوانات والحشرات، ما يمنح الأمل في تطوير طرق للتشخيص بتكاليف قليلة ودقة عالية.
وحتى في مجال الاتصالات قد يفتح لنا آفاقا واسعة، فقد وجدوا أنه بمجرد تقليبه في ماء دافئ لعدة أيام تصدر عنه أشعة تشبه تلك المستخدمة في أجهزة التحكم عن بعد وأجهزة الاتصالات!
وحتى في عالم الجريمة قد يسهم بشكل فعال في كشف الجرائم والتعرف على الجناة، فقد تمكن الباحثون في أستراليا من التعرف على البصمات، خصوصا على الأسطح اللامعة عند ذره فوقها وتسجيل الضوء الصادر عنه بكاميرات حساسة. لا تزال الحضارة الفرعونية تثري عالمنا وتكشف لنا مزيدا من أسرار الكون وقدراته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي