إجماع إنساني على الحياة

إجماع إنساني على الحياة
سقطت الأقنعة عن أكاذيب طالما قدمت كمسلمات.
إجماع إنساني على الحياة
إننا في لحظة الإعلاء من قيمة الحياة ضد كل النزعات الإنسانية.

تتجه الإنسانية نحو الاعتياد على طبق واحد في المواد الإخبارية، بعدما انقلب التنوع الذي يطبع مواد الأخبار إلى وحدة موضوعية، قوامها تدوير الأخبار حول انتشار فيروس كورونا وعدد الإصابات والوفيات والمتعافين.. وما إلى ذلك من قصص هنا وهناك، لا تبتعد كثيرا عن الفيروس. في غمرة الانشغال حد الهوس بالفيروس التاجي، نتجاوز عن أخبار لو وقعت في غير زمن كورونا، لملأت الدنيا ضجيجا، وانشغل الناس بها لأسابيع وربما لأشهر؛ قراءة وتحليلا وحتى تركيبا.
كشفت هذه الجائحة زيف ما تتلقاه الإنسانية حقيقة مطلقة، وتتعاطى معه كذلك دون أن تتيح لنفسها فرصة التفكير خارج الإطار عن إمكانيات أخرى قد تحول المستحيل ممكنا. نعم لقد سقطت الأقنعة عن أكاذيب طالما قدمت كمسلمات ينبغي القبول بها والتعايش معها، دون أي جرأة على مساءلة أصولها وأسسها، ولو من باب التثبت والتيقن.
لقد حققت أزمة كورونا في المجال الديني على سبيل المثال، وفي زمن قياسي جدا، ما لم يقدر على إنجازه عشرات آلاف من العلماء ورجال الدين وآلاف المؤتمرات حول الحوار والتعايش والتقارب بين الأديان، تم تنظيمها على أطوارها على مدار عقود من الزمن، لدرجة ظهر معها تيار في أوساط الباحثين في مقارنة الأديان، يدافع عن فكرة أن الصراع هو الأصل.
تحقق فجأة تقارب منقطع النظير بين الأديان، دون حاجة إلى مؤتمر أو أرضية أو حوار.. حيث التزمت الأديان كافة - باستثناء مجموعات صغيرة - بالتوجيهات العامة والتعليمات الصحية الصادرة عن الدولة التي تنتشر فيها هذه الديانة أو ذاك المعتقد. أكثر من ذلك، عادت كل ملة إلى تراثها الديني بحثا عن نصوص تأصيلية أو تأويلية، يمكن توظيفها في توجيه الناس للتعاطي مع هذه الجائحة.
توقف بالموازاة مع ذلك كل الطقوس الدينية التي تمارس في شكل جماعي، فربما للمرة الأولى يسجل التاريخ البشري، إيقاف الشعائر الدينية التي تفرض تجمع الناس كالصلاة والحج والتجمعات، وتم إغلاق مختلف دور العبادة "المساجد والكنائس والمعابد". وانخرط كبار العلماء والقساوسة والرهبان في حملات توجيهية وإرشادية لأتباعهم، على غرار تلك التي أطلقتها المنظمات والهيئات الرسمية.
طبعا شكلت بعض الطوائف الدينية استثناء من هذا الإجماع الديني الاستثنائي، ففي الوقت الذي يفرض فيه الوباء ثقافة الموت على العالم، تجمع الأديان قاطبة، وهذا جوهر الفكرة الدينية في الأصل، على الانتصار لإشاعة ثقافة وقيم الحياة في عالم كورونا.
تعد القيم أو الأخلاق؛ بحسب المرجعيات، الجانب الآخر المكشوف عنه في زمن كورونا؛ ففي أوج التضامن والتآزر الإنساني العالمي، في لحظات قلما يجود بها التاريخ البشري، تطالعنا بين الفينة والأخرى أخبار تعكر جو الإحساس بالانتماء إلى الإنسان؛ مطلق الإنسان دون أي نعت أو وصف آخر، فأي صفة لا تعدو أن تكون مجرد إكسسوار إضافي، لا يسمن ولا يغني من وباء يهاجم الإنسان.
لقد تابع العالم قبل أيام، تصريحات خبيرين فرنسيين، لهما باع طويلة في الأبحاث الطبية على الصعيد العالمي، أحدهما مدير الأبحاث في المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية، طالبا فيها بأن تكون القارة السمراء مختبرا لتجريب لقاحات فيروس كورونا، ليتأكد من جديد أن شعارات المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان حكر على سلالة الرجل الأبيض، فيما بقية الأعراق أناس من درجة ثانية أو ثالثة أو حتى حيوانية؛ لقد كشفت هذه الزلة عن جوهر العقل الغربي، الذي حول المواطنين الأفارقة؛ منذ زمن "الحداثة"، إلى فئران للتجارب والاختبارات.
في الضفة الأخرى من الغرب، تحديدا في ولاية ألاباما الأمريكية، أصدرت السلطات مذكرة إلى مختلف المصالح الصحية في الولاية، تتضمن أوامر صارمة تفيد باستثناء الأشخاص المعوقين "إعاقة التوحد ومتلازمة داون والشلل الدماغي" من العلاج والعناية الطبية، إذا ما أصيبوا بالفيروس، بدعوى خروج الوضع عن السيطرة، وعدم كفاية موارد النظام الصحي للتكفل بالعدد الكبير من الحالات المصابة.
كانت إيطاليا في قلب القارة العجوز سباقة إلى هذا السيناريو، حيث تركت الأطقم الطبية في شمال إيطاليا كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة يواجهون الموت، بعدما صارت حياة أو موت إنسان بين يدي الطبيب، وتم تغيير القاعدة المشهورة في المساعدة الطبيبة "من يصل أولا يخدم أولا"، بقاعدة تستند إلى عتبة عمرية محددة للدخول إلى العناية المركزة. ذلك تطبيقا لتوجيهات النشرة الصحية التي تدعو الأطباء إلى "استخدام الموارد الطبية أولا لأولئك الذين لديهم احتمالية أعلى للبقاء على قيد الحياة، ومن ثم الذين ما زالوا يافعين، وثالثا المقدرة على إفادة أكبر شريحة ممكنة من الناس".
تتكرر من حين إلى آخر الحوادث التي تخدش فسيفساء الإجماع الإنساني ضد كورونا، فهذه فنانة تدعو إلى إجراء تجارب اللقاح على السجناء بدل الفئران، وذاك مشهد لشلة من الشباب في عاصمة عربية يعتدون على مواطن آسيوي؛ مصدقين رواية الرئيس ترمب، بكون الفيروس صناعة صينية.. وهلم جرا من الحكايات والقصص التي يستعان بها قصد تكسير رتابة الأخبار حول فيروس كورونا.
مهما يكن من أمر، فسيسجل التاريخ أن عام 2020 شهد بفضل فيروس كورونا، تحقيق إجماع إنساني لا نظير له في سجل البشرية، إجماع فرض على الأفراد والجماعات والدول، على حد سواء، إعادة النظر في ترتيب الأولويات، وربما نقدا ذاتيا لها، بالانتصار للقيم الحقيقية بدل الزائفة، إننا في لحظة الإعلاء من قيمة الحياة ضد كل النزعات الإنسانية المتطرفة "العنصرية، التطرف، الإقصاء، التكفير...".

الأكثر قراءة