الإنترنت حق إنساني وليست مجرد سلعة
تتيح تكنولوجيا المعلومات والاتصال الحديثة - مثل انتشار استعمال الإنترنت والهواتف على نطاق واسع، وفي مختلف مناحي الحياة العصرية للأفراد - فرصا متساوية للدخول إلى مجتمع المعلومات، وتلقي المعطيات من مصادر متنوعة. كل ذلك جعل من الإنترنت إحدى أقوى الأدوات التي تمتلكها شعوب القرن الـ21، فالنفاذ إلى هذه الشبكة لم يعد يكتسي بعدا خدماتيا صرفا، إنما تحول إلى حق من حقوق الإنسان؛ بعدما أكد مجلس حقوق الإنسان ذلك في أكثر من مناسبة.
تدريجيا، تحولت الإنترنت من سلعة تخضع لقوانين السوق إلى حق من حقوق الإنسان، يستحق الاحترام، واتسع نطاق الأصوات والحملات الدعائية، التي تطالب الدول بضمان الحقوق الرقمية للمواطنين، في عصر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات، فالإنسانية اليوم - في نظر همايون كبير الفيلسوف والسياسي الهندي - أنهت عصر الحضارات التي تعيش في نظام مغلق، نحو عصر المفاهيم المختلفة لحقوق الإنسان.
تندرج الحقوق الرقمية ضمن دائرة يكتنفها كثير من الغموض والالتباس، سواء فيما تعلق بتحديد ماهية هذه الحقوق، من وضع تعريف لها، وحصر للمفاهيم المتصلة بها، أو ما ارتبط بمعرفة مختلف السبل الكفيلة بضمانها لكل مستخدمي وسائل التكنولوجيا الحديثة، ثم توفير مختلف ضمانات حمايتها من الانتهاكات التي قد تلحق أصحابها؛ سواء من جانب الدولة أو الشركات الخاصة، إما عن قصد أو عن جهل في أغلب الأحيان، في ظل وجود نقص كبير فيما يتعلق بمعرفة الأفراد بهذه الحقوق أولا، وكيفيات الدفاع عنها ثانيا.
يشمل مفهوم الحقوق الرقمية بمعناه الواسع كل الحق في التعبير في الفضاء الرقمي، والحق في احترام الخصوصية، والحق في التحرر من الرقابة على الإنترنت.. وكل هذه الحقوق مستمدة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، ومنسجمة مع مضامين العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966. بهذا تكون حقوق الإنترنت امتدادا لحقوق الإنسان في العالم الواقعي، فهي حقوق معترف بها، محمية ومروج لها من قبل بعض القوانين والمعاهدات الدولية، حيث أقرت الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان عددا من القرارات التي تنص على أن "الحقوق نفسها التي يتمتع بها الناس في العالم الواقعي، تجب حمايتها أيضا على الإنترنت".
يقود البحث في أصول نشأة هذه الحقوق إلى أن الانفتاح الرقمي الذي يعيشه العالم، دفع منظمة الأمم المتحدة إلى اعتبار الوصول إلى الإنترنت حقا من حقوق الإنسان، وكل محاولة لقطع هذه الخدمة عن المشتركين بمنزلة انتهاك للقانون الدولي لحقوق الإنسان. في المقابل، لا تعد الدولة التي توفر لمواطنيها حق الوصول إلى الإنترنت دولة تتوافر فيها الحقوق الرقمية؛ فالولوج إلى الإنترنت حق واحد فقط ضمن قائمة حقوق أخرى تترتب على هذا الحق.
يتعذر تقديم عرض مفصل عن الحقوق الرقمية كافة، لكن اعتبارا لما أحدثته الثورة الرقمية في حياتنا؛ التي أضحت بلا خصوصية، بعدما فرضت علينا وضع البيانات الشخصية بين أيدي الغرباء، ومشاركة الخبايا والأسرار مع مجهولين لا نعرفهم، نتوقف عند الحق في الحياة الخاصة الرقمية، الذي أصدرت هيئة الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأنه قرارا بعنوان "الحق في الحياة الخاصة في العصر الرقمي" بتاريخ 27 تشرين الأول (نوفمبر) 2013. وكان هذا أول قرار أممي يؤكد، بشكل واضح وملموس، أن حقوق الإنسان في الفضاء الرقمي تستدعي حماية وتعزيزا بقدر حمايتها واحترامها في العالم الواقعي.
حماية الحق في الحياة الخاصة الرقمية حق أصيل من حقوق الإنسان، تتضمن في حيثياتها عدة حقوق فرعية، لعل من جملتها نذكر: الحق في التخفي الرقمي، فقد بات من حق أي شخص الوجود على شبكة الإنترنت، دون أن يكون مجبرا على كشف هويته الحقيقية، شريطة ألا يؤثر ذلك في النظام العام أو يمس حقوق الغير وحرياته. ويرتبط بهذا الحق استخدام التشفير الإلكتروني؛ أي استخدام رموز وإشارات غير متداولة، فتصبح بمقتضاها المعلومات المرغوب في تحويرها أو إرسالها غير قابلة للفهم من قبل الغير.
الحق ذاته من زاوية أخرى، يصبح "الحق في الهوية الرقمية"، ويعني أن يكون لكل شخص الحق في الوجود كـ"شخص رقمي" على شبكة الإنترنت، إلى جانب وجوده كشخص حقيقي في الواقع. بذلك تصبح لدى الشخص "هوية رقمية"، تستدعي تجريم انتحال أو اختراق كل العناصر المرتبطة بها "انتحال البريد الإلكتروني، انتحال صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، انتحال عنوان بروتوكول الإنترنت...".
نجد إلى جانبها الحق في النسيان الرقمي، ويقصد به التزام المسؤولين عن معالجة المعطيات الشخصية بعدم حفظ تلك المعطيات لمدة تتجاوز الغاية التي جمعت من أجلها، ويقصد به كذلك تخويل كل شخص الحق في تعديل أو حتى سحب معلومات تخصه من شبكة الإنترنت "مواقع إلكترونية، مواقع التواصل الاجتماعي..." شريطة ألا يحدث ذلك ضررا للأشخاص الذاتيين أو المعنويين، الذين يحوزون هذه المعلومات.
ما سبق مجرد أمثلة سريعة وبارزة، لما تتضمنه الحقوق الرقمية من حقوق أصيلة وأخرى فرعية، لم تدخل بشكل جدي إلى دائرة التداول والاهتمام على الصعيد الدولي إلا في عام 2013. بعد تسريبات إدوارد سنودن الذي فضح التجسس الإلكتروني لوكالة الأمن القومي على ملايين من الأفراد في العالم، فهب المنتظم الدولي للكفاح من أجل الحقوق الرقمية، وازداد ضغط مجموعات دولية مدافعة عن الحقوق الرقمية "الحقوق الرقمية في أوروبا، مؤسسة الحدود الإلكترونية، مجموعة الحقوق المفتوحة، جمعية تقنيات الإنترنت...".
لا يزال الغموض يلف عديدا من الجوانب فيما يتعلق بالحقوق الرقمية، فلا شك أن القارئ تتزاحم في ذهنه - وهو يصل إلى النهاية - زوبعة من الأسئلة بشأن الموضوع. بدءا بأمثلة عن التشريعات الدولية المقارنة حول مسألة الحقوق الرقمية، وصولا إلى نماذج وتطبيقات لهذه الحقوق على أرض الواقع، وبينهما التساؤل الأكبر عن موقع ونصيب الدول العربية من الحقوق الرقمية؟